الروس يصيبون الهدف مرة جديدة

ناصر قنديل

– يضع متابعون التصعيد الأخير الذي شهده شمال سورية مع انسحاب وفد جماعة الرياض من محادثات جنيف في خانة إنجاز تمكّن الثنائي السعودي التركي من تحقيقه بفضل مناورته على اتفاق الهدنة، ويقول هؤلاء إنّ الدولة السورية اضطرت لمراعاة الحاجات الدبلوماسية لحليفها الروسي وظهوره كوسيط القبول بهدنة سيترتب عليها تمكين الجماعات المسلحة، خصوصاً شمال سورية بالاستناد إلى ما يوفره العمق التركي، من زيادة عديدها واستقدام الرجال والذخائر وإقامة التحصينات، وإدخال أسلحة نوعية، وتوقيت تفجير المعركة لإطاحة ما أنجزه الجيش السوري وحلفاؤه خلال شهور مضنية مليئة بالتضحيات.

– تقول الوقائع إنّ الذي استفاد من الهدنة لتحقيق إنجاز عسكري مكتمل وبائن وغير قابل للتأويل هو الجيش السوري وحلفاؤه، كما قالت معركة تدمر، وإنّ هذا الإنجاز نوعي واستثنائي وله مفاعيل كبرى على كلّ مسار الحرب في سورية، خصوصاً لجهة الأمن الحيوي لربط المحافظات السورية ببعضها البعض، لما تشكله عقدة تدمر من مفصل حساس بوقوعها بيد «داعش» صار التهديد مباشراً لأمن حمص والطريق الدولي بين حمص ودمشق، وبين دمشق والساحل، واستطراداً عبر البادية المتصلة بريف حماة شمال حمص، ليسيطر «داعش» على طريق حماة حلب وصولاً إلى خناصر كما فعل مراراً، ونصر تدمر عدا عن توجيهه ضربة قاصمة لمشروع «داعش» الذي يفقد قيمته بخسارته تدمر، منح الجيش السوري موقعاً لا يقبل نقاشاً في أهليته كشريك حتمي في الحرب على الإرهاب، مقابل الفشل الذي حصدته كلّ البدائل المرتجاة التي استثمر عليها الأميركيون سياسياً ومالياً بلا جدوى. وكلّ هذا ما كان ليكون لولا الهدنة التي أتاحت تركيز مقدرات عسكرية هامة وحيوية لتحقيق هذا النصر، كانت منشغلة ومشتتة على جبهات أخرى، وكانت حرب تدمر ترجمة مباشرة لأحكام الهدنة كما اضطر للاعتراف وزير الخارجية الأميركي جون كيري، باعتبار «داعش» مستثناة من أحكام الهدنة.

– الحلقة الثانية من الهدنة كانت الاستعداد لحرب تستهدف «جبهة النصرة» من ضمن أحكام الهدنة، وليس خافياً أنّ كلّ الصراع في سورية يدور حول «جبهة النصرة»، وانّ الهدنة مبتكر روسي لعزل «النصرة» عن مكونات المعارضة التي كان عليها أن تختار بين الالتحاق بـ»النصرة» وخسارة مقعدها التفاوضي وصفتها السياسية كمعارضة، أو تقبل معادلة الهدنة، وتسعى لإفراغها من محتواها، كما حاولت أن تفعل هي ورعاتها الإقليميون، وخصوصاً التركي والسعودي و«الإسرائيلي»، وإذا كانت جبهة شمال سورية معلومة الهوية كمنطقة سيطرة لـ«جبهة النصرة» قد قبلت ضمن الهدنة لمجرد ادّعاء جماعات المعارضة أنها تحت لوائها، فذلك لأنّ مقتضيات معركة تدمر كانت تستفيد من شمول أوسع مناطق ممكنة بالهدنة، وتجميد القتال فيها، ومثلما كان رهان «النصرة» على هذا القبول، هو توريط الجيش السوري بحرب استنزاف في تدمر مع «داعش» تدوم لشهور، كان رهان الجيش السوري على مقدرته وجهوزيته للحسم السريع، وبالحصيلة، فرض الجيش إرادته واضطرت «النصرة» للكشف عن وجهها ورمي قناع جماعة الرياض والخروج من الهدنة استباقاً لما تعلم أنه ينتظرها.

– من المنطقي أن تكون «النصرة» وسائر أخواتها من «جيش الإسلام» و«أحرار الشام» قد استفادوا من الهدنة تذخيراً وسلاحاً واستجلبوا رجالاً، كما لا يمكن إنكار أنّ التركي والسعودي و«الإسرائيلي» قد رموا بثقلهم لتوفير شروط أفضل لهذه المعركة، خصوصاً على الصعيد السياسي بخوض أعلى عملية تعبئة إعلامية لتظهير ما يجري هناك كانتهاك من الجيش السوري لأحكام الهدنة، والأكيد أنّ التنسيق الروسي السوري مع الحلفاء يعتمد على معادلة تحكم كلّ منطق القبول بالعملية السياسية، وهي ربط تحقيق كلّ إنجاز عسكري بنيل الشرعية الدولية للإنجاز الذي يلي، وهكذا كانت معارك ما بعد التموضع الروسي تهدف للتمهيد للهدنة، بما هي حسم لأمر تصنيف «النصرة» مع «داعش» بالتساوي كتنظيمين إرهابيين بعد سنوات خلاف مع كلّ المعسكر الآخر على موقع «النصرة» في الحرب مع «داعش» وفي العملية السياسية، وكانت المعادلة قبل صدور القرار الأممي 2254 الذي سحب من التداول الدولي في مصير الرئاسة السورية كمفردة للحلّ السياسي وجعلها أمراً يخصّ السوريين وحدهم يحسمونه بالتفاوض أو يؤجل لصناديق الاقتراع، هي استمرار الإنجازات العسكرية الميدانية حتى يقبل الأميركيون ما قبلوه وصدر في القرار، وبعد القرار صارت القضية مواصلة القتال حتى يصدر اتفاق أميركي روسي للهدنة يضمن تصنيف «النصرة» إرهاباً وصدر. وبعد الهدنة صار القتال لانتزاع تدمر من قبضة «داعش» بغطاء دولي وانتزعت وصفق العالم. وبعد تدمر يدور الصراع للتمهيد لحرب «النصرة» بعد انتزاع اعتراف دولي وخصوصاً أميركي وفقاً لأحكام الهدنة أنّ حرب شمال سورية هي حرب مع «النصرة» وليست انتهاكاً للهدنة بل تطبيق لأحكامها، بينما ثقل تركيا والسعودية و»إسرائيل»، عبر سحب الوفد المفاوض والتصعيد الإعلامي وضمّ الجولان للقول إنّ الدولة تنتهك الهدنة وإلزامها بوقف الحرب ضدّ «النصرة» فينتصر خصومها ويحتفلون كلّ من موقع أهمية «النصرة» في حساباته، «إسرائيل» بحزام الجولان وتركيا بمنطقتها الآمنة، والسعودية بجدية حسابات تفخيخ مسارات التسوية السورية.

– الحبّة حبّة والخطوة خطوة التي أظهرها الروس في إدارتهم لحلقات الحرب والدبلوماسية في سورية، ربحت كلّ رهاناتها حتى الآن، وكان السؤال عن الحلقة الأصعب هو الذي سيحمل النتيجة الأهمّ، ولما تحرّك الأميركيون عبر المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا للدعوة للقاء دول مسار فيينا تحت شعار إنقاذ الهدنة والمسار السياسي من خطر الانهيار، ردّت موسكو بأن لا ضرورة لذلك كما فعلت قبل شهور من لقاء نيويورك الذي عادت فشاركت بحضوره بعد تعديل الموقف الأميركي والقبول بما صدر لاحقاً في القرار الأممي، وقال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مفسّراً موقف حكومته، إنّ القضية تتوقف على خروج جماعات المعارضة من مناطق سيطرة «النصرة»، وكان الجميع بانتظار الموقف الأميركي، فواشنطن هي اللاعب الموازي لموسكو وهي شريكها في وضع أحكام الهدنة. يربح الجولة الثالثة من الهدنة قبل الحرب مَن يربح موقف واشنطن: الحرب في حلب ضمن أحكام الهدنة أم انتهاك لها؟

– ربحت روسيا وسورية جولة تدمر من الهدنة، وربحت جولة انسحاب الوفد المفاوض وتفجير جبهات خارج حلب، فبدت جماعة الرياض عنصر تعطيل للمسار السياسي وطرف في التصعيد العسكري، حتى صدر الموقف الأميركي أمس بوضوح بلسان الناطق باسم التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن للحرب على «داعش» الكولونيل ستيف وارن، يقول إنّ الحرب في حلب ليست انتهاكاً للهدنة، لأنّ «النصرة» هي من يسيطر هناك، و»النصرة» ليست مشمولة بأحكام الهدنة.

– نصر دبلوماسي جديد ونوعي تحققه الدبلوماسية الروسية، وخسارة مدوية للتحالف التركي السعودي «الإسرائيلي»، وفضيحة لجماعة الرياض.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى