حضارة المايا الألفية المكسيكية تتألق في سماء برلين… كيف كانوا قبل «الاكتشاف» وكيف أمسوا بعده؟

محمد محمد الخطابي

افتُتح يوم الأربعاء 13 نيسان الجاري 2016 في العاصمة الألمانية برلين، معرض كبير تحت عنوان «المايا». حيث يمكن للزوار الألمان وغير الألمان الذين يتقاطرون عليه زرافات وفرادى، الاطلاع والمشاهدة عن قرب داخل الصالونات الفسيحة لمتحف «مارتن غروبيوس بو» الذي أقيمت في فضاءاته هذه التظاهرة الكبرى، ما يزيد على 300 قطعة فنية نفيسة تعتبر كنوزاً وطنية، وتراثاً للإنسانية جمعاء.

وأشار المسؤولون المكسيكيون المشرفون على إقامة هذا المعرض إلى أن هذه الكنوز الأثرية لم تبرح أرض المكسيك قط من قبل، ما يعطي أهمية خاصة لهذا الحدث الثقافي الفريد. ويقدّم المعرض التنوع والثراء اللذين يميزان مختلف الفنون التي اشتهرت بها حضارة المايا الألفية العريقة التي حاول وعمل «المكتشفون» الإسبان عقب وصولهم إليها عام 1492 على طمسها، وإبادة أصحابها من شعوب المايا والأزتيك وسواهما من الحضارات التي تعاقبت على الأصقاع النائية من العالم في ذلك الإبان.

شبه جزيرة «جوكاتان» المكسيكية أرض قدماء شعوب سكان المايا، مرتع حضارتهم القديمة الذين رفعوا فيها الأهرامات الشامخة، ونصبوا المجسمات العالية، وأقاموا التماثيل الكبرى قرباناً وتزلفاً لآلهتهم… ها هم اليوم يقدّمون نماذج من هذه الحضارة الضاربة في القدم في قلب العاصمة الألمانية برلين.

وقد أقام المشرفون على هذا التظاهرة الثقافية التي تقام للمرة الأولى خارج المكسيك بهذا الحجم والزخم ستة مواقع أركيولوجية أثرية مفتوحة في وجه الجمهور، وما ينيف على 3000 موقع أثري حقيقي آخر مازال يوارى التراب في الأراضي المكسيكية الشاسعة مترامية الأطراف.

ويقدّم المعرض لزواره عيّنات من نماذج ملموسة للمنتوجات، والمصنوعات التقليدية، والمنحوتات الأثرية المكسيكية القديمة من تماثيل بشرية، ومجسمات حيوانية، فضلاً عن أوان خزفية، وفخارية، ومعدنية، ومجوهرات، وأقنعة، وقطع الزينة، والحلي مصوغة أو مصنوعة من الذهب والفضة واليشم، وسواها من المعادن الثمينة التي اشتهر بها العالم الجديد.

وبعد تدشينه لهذا المعرض قام الرئيس المكسيكي إنريكي بينيا نييتو، الذي حضر إلى ألمانيا خصيصاً لهذه الغاية، قام إلى جانب نظيره الرئيس الألماني يواخيم غاوك بزيارة تفقدية لمختلف أجنحة وأروقة هذا المعرض الكبير.

وقال المسؤول عن القطاع السياحي في ولاية جوكاتان ساهول مارتن أنكونا: «إننا ورثة ثقافة كبرى منوعة رائعة ما تزال تنبض بالحياة». وأضاف: «إننا شعب سحريّ ولدينا بلد شاسع لم يكتشف بعد».

اشتهرت شعوب المايا بنبوغها وإتقانها لفنون المعمار، والنحت، حيث برع سكانها في تشييد البنايات الكبرى، ورفع القلاع الحصينة، وإقامة الأهرامات الشاهقة، وصنع التماثيل، والرسم على الجدران والأواني على اختلاف معادنها، كما أنهم بلغوا شأواً بعيداً في فنون الفلاحة والبستنة والزراعة والري، وعرفوا تطوراً هائلاً في علوم الفلك، والرياضيات وحساب الزمن وعلوم النجوم، إلا أن هذه المعارف على اختلافها وتعددها كانت غارقة في سديم المعتقدات الدينية والطقوس الغرائبية والطلاسم السحرية، ما كان يدفعهم للقيام بتقديم قرابين بشرية لآلهتهم من أطفال ورجال… بشكل دموي عنيف.

قبل «الاكتشاف» وبعده

وتجدر الإشارة في هذه المناسبة إلى كتاب طريف بعنوان «رايزال» للكاتب المكسيكي إغناسيو غوميز بلاسيو، الذي يحاول أن يجيب عن هذا السؤال: كيف كان المايا قبل «الاكتشاف» وكيف أمسوا بعده؟ إذ يدور الكتاب برمّته حول شعوب المايا، هذا الكتيب لم أتمكن منذ مدة من التملص أو التخلص منه بسهولة ويُسر، إنه يرافقني حيثما أقمت أو ارتحلت، لطرافة موضوعاته وعمق مضامينه ومدى جديته وجدواه بالنسبة لمن أراد أن يتعرف أو يعرف ماذا جرى لتلك الشعوب المقهورة والمغلوبة على أمرها، وما عانته وقاسته من جرّاء ذاك الذي أطلق عليه اعتباطاً وجزافاً بعد 1492 بـ«الاكتشاف»، هذه الشعوب التي لم يألُ الكاتب جهداً في تتبع، ومعالجة طريقة تفكيرها، وفلسفتها وفهمها للحياة، ونظرتها لها، التي تختلف عن طرائق عيشنا، والتي يمتد بيننا وبينها برزخٌ واسعٌ من الزمان والمكان. يحفل الكتاب بقصصٍ تنخلع لها القلوب، وحكايات تشيب لها الولدان، نظراً للمآسي الفظيعة، والمروعة التي عصفت بهؤلاء السكان الأصليين للقارة الأميركية وبحضارتهم ولغتهم وثقافتهم، وتقاليدهم ومعتقداتهم وموروثاتهم، بعد وصول الإسبان إلى هذه القارة البكر النائية، التي أطلق عليها في ما بعد اسم العالم الجديد، أو إسبانيا الجديدة، وأخيراً أميركا.

جذورالواقعية السحرية

يقول الباحث المكسيكي أجيري خيراردو عن هذا الكتاب: «تعتبر هذه المجموعة من القصص والحكايات التي تدور برمتها حول السكان الأصليين من المايا في المكسيك إضافة نوعية قيمة إلى الأدب الأميركي اللاتيني المعاصر، الذي من جذوره الأولى، وأساطيره الضاربة في التاريخ والقدم، ومن روائعه تفتقت، وانبثقت إبداعات عدد من أدبائه وكتّابه ومبدعيه، وهو ما أمسى يعرف في ما بعد بالواقعية السحرية في أدب أميركا اللاتينية، التي أصبحت منذ منتصف القرن المنصرم، من علامات وسمات هذا النوع من الإبداع الأدبي الذي نبغت في خضمه، وتألقت في سمائه أسماء لامعة في الأدب الأميركي اللاتيني الحديث منها ـ على سبيل المثال لا الحصر: ميغيل أنخيل أستورياس، وخوليو كورتاثار، وخورخي لويس بورخيس، وخوان رولفو، وكارلوس مونسيفايس، وكارلوس فوينتيس، وغابرييل غارسيا ماركيز، وماريو برغاس يوسا وسواهم.

ويضيف أجيري خيراردو قائلاً: «إنه كتاب تشم فيه، أو منه منذ البداية رائحة الأرض المخصاب، والنبات المبلول، وتطل من بين عيون سطوره أساطير وحكايات، وقصص وروايات وتواريخ هؤلاء السكان الأصليين للقارة الأميركية، وتشع من بين دفتيه بصمات الآثار وبقايا أطلال ومعالم وقلاع وأهرامات وحصون الحضارات القديمة السابقة للوجود الكولومبي في هذه القارة، ذلك أن جميع أبطال هذه القصص وشخوصها هم من الأقدمين، ويرمز عنوان المجموعة لهؤلاء الأجداد بلغتهم الأصلية المتوارثة، التي تعني عندهم مجموعات سكانية بعينها تنتمي لهذه المنطقة من العالم، مواضيع هذا الكتاب هي الأرياف والبوادي النائية عن المدن والحواضر التي لم تصلها بعد أصباغ التمدين وطراوته وتطريته ورخاوته، حيث يتابع الكاتب خطوات ومعايشات وملابسات، حفدة هؤلاء السكان الأولين الذين استوطنوا هذه الأراضي، التي كانت في ما مضى مرتعاً لحضارات قديمة مميزة سادت فيها ثم بادت شعوب المايا والأزتيك وسواهما من الحضارات التي تقدم اليوم في إحدى كبريات الحواضر الأوروبية وهي برلين.

إن أخبار هذه القصص وأحداثها لا تنحصر في شعبٍ بعينه، بل إننا نجدها في مختلف الشعوب، التي لم يعد موجوداً منها بين ظهرانينا اليوم سوى موروثاتها وتقاليدها، ولغتها وحفدتها. يريد الكاتب أن يفهمنا في هذا الكتاب أن صاحب الأرض الساكن الأصلي في هذا البلد لم يعد يبدي اليوم مقاومة، ولا صدوداً نحو اللغة والثقافة الإسبانيتين الوافدتين مع الغزو الإسباني، في جنوب القارة، ولا نحو اللغة والثقافة الإنكليزيتين في شمالها، إلا أن هذا القاطن الأصلي مع ذلك حافظ بالمقابل، ليس فقط على تقاليده وعاداته وحسب، بل إنه حافظ كذلك على لغته التي تفصح عن هويته التي توارثها أباً عن جدّ، وهو ما زال يلقن هذه اللغة لأبنائه وحفدته، وسوف تلقن لمن سيأتي بعدهم، وعليه فإنه حتى إن أمسى اليوم ثنائي اللغة الإسبانية جنوباً، وأصبح ثنائي اللغة الإنكليزية شمالاً، وحتى لو أذاقه أهل هاتين اللغتين والثقافتين في الحالتين الأمرّين، مع ذلك إنه لا يقلد أبداً الإنسان الأبيض في الجهتين لا في عاداته، ولا في تقاليده، ولا في طريقة تفكيره، بل إنه يتحاشى أن يكون مثله، وهو شديد الاعتزاز والتشبث بماضيه والافتخار والتباهي به.

كيف عاش المايا في ماضيهم البعيد؟

يضمّ هذا الكتاب قصصاً مترابطة ومتشابكة ومتلاحمة ببعضها. إذ تغدو في نهاية المطاف وكأنها رواية مسلسلة الحلقات يحكي لنا قصة هؤلاء السكان الأصليين، وكيف كانوا يعيشون في ماضيهم البعيد، كما أنه يرصد لنا كذلك كيف كانوا يفكرون، ويسجل لنا الكتاب كيف كانوا يتصرفون، إزاء الحضارة الوافدة أو القوى الغازية خلال القرون التي تلت الاكتشاف ـ الغزو وبشكلٍ خاص خلال القرنين التاسع عشر، والعشرين. يحكي لنا الكتاب كيفية اندماجهم، في الحياة العصرية، وما نتج عن ذلك من آلام ومفارقات وتناقضات ومواجهات، مع تسليط الأضواء على مختلف أشكال الظلم، والتعنت، والتمييز، والحيف، الذي تعرضوا له من جرّاء الغزو الأجنبي لبلدانهم وأراضيهم، وحياتهم وعاداتهم وتقاليدهم.

هذا الكتاب لم يكتب داخل منازل المدن الفارهة، أو على طنافس صالونات البيوتات الفاخرة، حيث جميع وسائل الراحة متوفرة، بل إنه كتب بعيداً عن المدينة، حيث عاش الكاتب بالفعل مع هؤلاء السكان الأصليين، أي أنه عايش أبطاله في قراهم، وفي مداشرهم، وفي غاباتهم، وأدغالهم، وآجامهم، وفي الأرباض النائية والنواحي البعيدة التي تطل من بعيد على إحدى أكبر مدن العالم «مكسيكو سيتي» العملاقة، أو على حاضرة «تينوشتتلان» بحسب اسمها الأزتيكي القديم، ويخبرنا الكاتب أنه عايش شعوب «المايا» في شبه جزيرة «جوكاتان» المكسيكية حيث ظهرت ونشأت وترعرعت وازدهرت حضارتهم، ثم سرعان ما خمدت وذبلت، وأفل نجمها، وهي الحضارة التي تعرض اليوم نماذج من إبداعاتها الفنية في برلين.

الكاتب خلال وضعه لهذا المؤلف نسي «ظرفه الإنساني»، ونسي الشهادات الجامعية العليا التي يحملها، وأصبح واحداً من هؤلاء البسطاء، إننا نتلمس من خلال سطور هذه القصص الرغبة الجامحة، والجوع المعرفي للتعمق في حياة شخصيات قصصه، وأبطالها ومعاناتهم التي تختلف عن معاناة الإنسان المتمدن، وينبئنا الكاتب عن الشأو البعيد الذي أدركه هؤلاء السكان الأقدمون، كما يخبرنا عن معارفهم الواسعة بعلوم الفلاحة والزراعة والبستنة والريّ، وعن علوّ كعبهم في علوم الفلك والنجوم والمناخ والرياضيات، واطّلاعهم الكبير على أسرار الطبيعة التي كانوا يعيشون في كنفها، فضلاً عن موروثاتهم وثقافتهم الفطرية، التي ترعرعت فوق هذه الأرض التي أصبحنا نحن اليوم نطأ وجهها ونلطخ أديمها ونتلف ثراها بلا خجلٍ ولا وجل!

العصافير تحلّق على انخفاض

هؤلاء القوم الذين ينم مظهرهم عن خشونة وغلظة وقسوة، يسري في دمهم، ويجري في أجسادهم إحساس رقيق، وشعور مرهف، وعطف كبير على أمهم الأولى الطبيعة، التي لا يتوقف الإنسان الأبيض المتمدن اليوم عن تدميرها وإتلافها يقول الكاتب: «إن الواحد منا عندما يندمج في مجتمعهم، ويتعرف على عاداتهم، ويقف على حكمهم، ويصغي إلى أمثالهم ويتمعن في حكمهم، يشعر بالخجل من نفسه ومن شهاداته الجامعية المرموقة، إذ إن معارفهم عن الطبيعة وتحركاتها وتغيراتها تبعث على الذهول والإعجاب حقاً، إنهم يراقبونها بواسطة الطيور وتصرفاتها. فكم واحد منهم تراه يقول: اليوم لن يسقط المطر، ألا ترى أن الطيور تحلق على علو شاهق؟ أما اليوم فسوف تهطل السماء مزناً نديا وأمطاراً غزيرة، ألا ترى كيف أن العصافير تحلق على انخفاضٍ دانٍ مسف؟».

لمعان النجوم وصمتها

هدوء البادية، وسكون الغاب، بالنسبة إليهم يلمسانه في لمعان النجوم وصمتها، وفي هبوب ريح الصبا المنعشة، إلا أن تلك الظواهر والأمارات عندهم لا تعني نفس ما تعنيه عندنا، فليلةٌ هادئة جداً إنما هي تعلن، أو تنبئ عن شئ ما، أو عن حدث ما، أو ظاهرة طبيعية ما، عن شمسٍ قائظة، حارة، حارقة، أو عن هواء مبلل عليل، أو ربما كانت تعني، أو تنذر ببردٍ قارس زمهرير، إن الطيور إذا زقزقت، والعصافير إذا غردت بهذا الشكل وليس بغيره، فإنما هي تفعل ذلك نتيجة إرهاصٍ خفي بتغيير وشيك الحدوث في الطبيعة، التي هي ملاذ للتفكير، وإعمال النظر، والتأمل من غسق الفجر، إلى شفق المساء، إنهم دائمو الحيطة والحذر على ما يملكون لحفظه ورعايته وصونه من التهلكة، والمخاطر، والتلف والضياع والدمار.

هذه المعاني البسيطة والتفاسير الغريبة كلها، التي تدخل في باب السهل الممتنع، وكل هذه الأحاديث المطوّلة والمشوّقة عن الطبيعة، وعن ألغازها الكبرى وأسرارها المحيرة، وظواهرها المبهرة، يشكل ضرباً من الفلسفة لدى هؤلاء القوم، كل واحدٍ منهم بحسب سنّه، ومكان وجوده، وظرفه، وزمانه، قد يفكر تفكيراً مغايراً عن الآخر، إلا أنهم حتى لو اختلفوا وتباينوا في ما بينهم عن الجزئيات، فإنهم في النهاية يلتقون ويتفقون دائماً في الجوهر، أو في عمق الموضوع.

هذه المعاني، وهذه الفلسفات التلقائية القديمة المتوارثة الحكيمة لن يراها، ولن يسمع عنها شيئاً الزوار الألمان الذين يتقاطرون بدون انقطاع على معرض المايا الذي جسم نماذج من المظاهر الحضارية والفنية التي عرفتها شبه جزيرتهم السحرية «جوكاتان» التي ترفع رأسها وأسوارها بفخار هذه الأيام في سماء برلين!

كاتب وباحث مغربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى