منطق الصراعات في المشهد السياسي العربي الراهن

د. زياد حافظ

الحضور الأميركي في العراق ما زال أقوى من الحضور الروسي. استطاعت الولايات المتحدة استغلال لحظة الضعف الروسي للدخول إلى العراق والهيمنة عليه. أما وقد خرجت القوات الأميركية من العراق باستثناء بعض التشكيلات العسكرية الصغيرة الحجم، فإنّ نفوذ الولايات المتحدة تراجع تراجعاً كبيراً وإنْ كان ما زال يحظى بقدر كبير من التأثير في قطاعات واسعة ووازنة بين النخب السياسية التي أفرزتها ما يُسمّى بالعملية السياسية.

الحكومة العراقية الحالية تحاول إيجاد بعض التوازن مع الولايات المتحدة عبر نسج علاقات مع روسيا. من هنا نفهم زيارة رئيس الوزراء العبادي إلى روسيا وإنجاز بعض الاتفاقات العسكرية والاقتصادية. وزيارة وزير الخارجية الأخيرة لبغداد محاولة لتجديد وتوثيق العلاقة مع واشنطن. الملف المشترك بين الحكومة العراقية والأميركية وإلى حدّ ما روسيا هو ملف «داعش». فما زالت الولايات المتحدة تضغط على الحكومة العراقية لمنع اللجوء إلى المساعدة الروسية أسوة بما حصل في سورية. لكن الوقائع الميدانية في سورية قد تفرض مراجعة لموقف الولايات المتحدة وضرورة التفاهم مع روسيا ليس فقط في سورية ولكن أيضاً في العراق.

الملف الثاني المشترك بين روسيا والولايات المتحدة هو الملف الكردي. فإذا كانت الولايات المتحدة داعمة للإقليم الكردي إلاّ أنّ هذا الدعم لم يترجم إلى دعم النزعات الانفصالية. كذلك الأمر بالنسبة لروسيا. فالانفصال في العراق له تداعيات كبيرة على كلّ من الجمهورية الإسلامية في إيران وتركيا وسورية. والعدوى الانفصالية إنْ انتقلت إلى تركيا تؤثر في الأمن القومي الروسي. من هنا نفهم التعاون الضمني الروسي الأميركي في الملفات العراقية الساخنة وإنْ كان لا يخلو من تباينات في وجهات النظر. الداعم الأول للنزعة الانفصالية في العراق هو الكيان الصهيوني الذي يشجع أيضاً على تجزئة العراق إلى كيانات عرقية وطائفية وفقاً لرؤية برنارد لويس. يحذّر هذا الأخير من أيّ نزعة وحدوية في المشرق العربي الذي يريده تجمّعاً للأعراق والطوائف فقط لا غير.

ثالثاً: الصراع الروسي الأميركي في ليبيا

الخدعة الأميركية في الموضوع الليبي كانت نقطة انطلاق التحرّك الروسي على الصعيد الدولي والإقليمي لردع الهيمنة الأميركية والتعالي والغطرسة إنْ لم نقل البلطجية في سياساتها الخارجية تجاه الحلفاء والخصوم. أما اليوم فبعد تدهور الوضع الليبي حيث أصبحت ليبيا نقطة تجمّع القوات العائدة لداعش وحلفائها من التنظيمات المتشدّدة، وبالتالي مصدر خطر مباشر على أوروبا والمصالح الغربية بشكل عام والأميركية بشكل خاص في ما يتعلّق بالنفط والأمن المتوسطي كان لا بدّ من التفاهم مع روسيا لوضع تسوية للأزمة الليبية. ما زلنا في هذه اللحظة بانتظار نضوج تلك التسوية. ولكن بات واضحاً أنّ الخروج المرتقب لقوات «داعش» من سورية اليوم وغداً من العراق قد تجعل من ليبيا نقطة انطلاق للتمدّد في المغرب العربي وجنوباً إلى دول الساحل الأفريقي وصولاً إلى وسط أفريقيا.

التسوية المرتقبة في ليبيا لا تعنى نهاية الصراع بين الدولتين فيها بل فقط ضبط إيقاع التنافس لمنع التدهور والخروج عن السيطرة. طالما كانت الإرادة العربية مغيّبة فالتدخّل الخارجي أمر طبيعي لأنّ الطبيعة لا تتحمّل الفراغ.

كانت هذه قراءة سريعة للصراع الروسي الأميركي في المناطق الساخنة في الوطن العربي. فالمواجهة السياسية المباشرة بينهما كانت واضحة خلال السنوات الخمسة الماضية في سورية وليبيا تتحوّل بوتائر مختلفة إلى تفاهمات ضمنية و/أو صريحة ليس لإنجاز تسويات تقسّم النفوذ بينهما في المنطقة العربية بل في رأينا لضبط إيقاع المواجهة لعدم تفاقمها وصولاً إلى مواجهة مباشرة عسكرية سواء في أوروبا الشرقية أو في مشرق الوطن العربي. الدليل على استمرار الصراع ولو بوسائل مختلفة مسرحية تسريب «أوراق بنما» التي تطال بشكل عام خصوم الولايات المتحدة وبشكل خاص الرئيس الروسي بوتين. فالصراع، إنْ لم نقل الحرب بين الدولتين، وإنْ تخللها بعض «التفاهمات» هي قاعدة العلاقات وإن تعدّدت الوسائل. بات واضحا أنّ الإعلام الذي تسيطر عليها مؤسسات قريبة من المجمع العسكري الصناعي الأمني المالي الغربي هو سلاح تحريض ودمار شامل.

الجزء الثاني: الصراع الإقليمي العربي

يتمحور الصراع الإقليمي العربي في عدد من الساحات. الساحة الأولى هي الصراع الأمّ وهو الصراع العربي الصهيوني. أما الصراع الثاني فهو الصراع العربي التركي في ساحات متعدّدة كالساحة المصرية والساحة السورية، وساحة الجزيرة العربية. أما الصراع الثالث فهو الصراع بلاد الحرمين مع الجمهورية الإسلامية في إيران في كلّ من الساحة العراقية والسورية واللبنانية واليمنية وما يرافقه من محاولات نسج تحالفات بين مصر وبلاد الحرمين والكيان الصهيوني كمشروع الجسر الذي يربط «آسيا بأفريقيا»!

أولاً: الصراع العربي الصهيوني

كانت وما زالت القضية الفلسطينية القضية المركزية للأمة العربية. والصراع العربي الصهيوني مرّ بتحوّلات حيث خرج زمام المبادرة في مواجهة الكيان من أيدي النظام الإقليمي العربي إلى ما يمكن تسميته بالحراك الشعبي وخاصة عند الشعب الفلسطيني. هذا الشعب العظيم ما زال يسطّر الأساطير في مواجهة غير متكافئة على الورق وفي الميدان ولكنه يسجّل نقاط في منتهى الأهمية رغم تخاذل الحكومات العربية وفقدان بوصلتها السياسية ورغم تواطؤ الغرب المستند إلى تخاذل العرب وأخطاء القيادات الفلسطينية في خيارات المواجهة مع الكيان.

في الورقة السابقة اعتبرنا أنّ الحراك القائم في كلّ فلسطين، ضفة وأراض 1948، انتفاضة من نوع فريد وليست «هبّة» كما ما زال يصفها البعض. فالتفلسف في التسميات لذلك الحراك لا يغني عن جوع ولا يسمن بل يعكس فقدان الإرادة للانخراط الفعلي في مواجهة العدو. صحيح أنّ كوادر وعناصر الفصائل الفلسطينية منخرطة في الصراع ولكن لم نشهد تشكيل قيادات موحدة وغرفة عمليات تنسّق وتدعم المبادرات الإبداعية للشعب الفلسطيني من شباب وصبايا استطاعوا تحدّي حاجز الخوف فأظهروا عدم المبالاة للحسابات الضيّقة أو العريضة التي تقوم بها «القيادات»!

قراءتنا للمشهد في فلسطين تفيد أنّ الكيان في حالة تراجع وإرباك أمام إبداع الشعب الفلسطيني. لكن هذا لا يعني أنه توقف عن عملية تهويد القدس والضفة الغربية مستفيداً من الصمت العربي الرسمي والإعلامي التابع لمصالح النفط باستثناء بعض الوسائل التي يتجرأ ذلك النظام على إسكاتها بدون خجل أو خوف من محاسبة. وليست محاولات إسكات محطة «الميادين» و«المنار» إلاّ دليلا قاطعاً على أنّ النظام العربي الرسمي أصبح شريكاً فاعلاً وفعّالاً في تصفية القضية، ناهيك عن السكوت عن استمرار الحصار على غزّة المقاومة بحجج لا تصمد أمام خطورة ما يصيب أهلنا في القطاع. وما يعزّز ذلك الشعور بتواطؤ النظام العربي الرسمي في تصفية القضية تنامي خطوات التطبيع في بعض الدول العربية. فبعد اللقاءات «العفوية» وفتح المكاتب التمثيلية التجارية نشهد طرح المشاريع المشتركة كمشروع الجسر بين الجزيرة العربية ومصر الذي لا يمكن أن يتحقّق دون موافقة ومشاركة الكيان الصهيوني.

غير أنّ نبض الشارع العربي ما زال مناصراً للشعب الفلسطيني ولقضيته ما يجعل طبيعة المواجهة مواجهة قومية في الدرجة الأولى مساندة لحراك الشعب. الأمثلة عديدة منها الهتافات لحوالى مائة ألف مشاهد في مباريات كرة القدم بين المنتخب الجزائري والمنتخب الفلسطيني نذكر منها أنّ الفريق الفلسطين لن يخسر في الجزائر. كما نذكر الطفل التونسي الذي رفض مصافحة منافس صهيوني له في مباراة الشطرنج فخسر اللقب، وعندما سئل عن الخسارة أجاب بأنّ هذه الخسارة لا تساوي خسارة أطفال غزّة. وأخيراً موقف مجلس الشعب المصري الذي صوّت لطرد أحد النواب الذي تباهى في استقبال سفير الكيان الصهيوني في منزله. نعم، ما زال الموقف الشعبي العربي سليماً وعظيماً في نصرة قضية فلسطين وإنْ تراجعت مكانة فلسطين في الاهتمام الرسمي العربي والإعلام الذي يدور في فلكه.

فلسطين توحد الجماهير العربية. فلسطين أصبحت حاجة عربية لإنقاذ العرب بعد أن كانت وحدة العرب حاجة فلسطينية لاسترجاع فلسطين. الانتفاضة تساهم في تفاقم الانفصام بين الجماهير والنخب الحاكمة في الوطن العربي. إنّ استمرار الانتفاضة من العجائب خاصة أنّ التنسيق الأمني بين سلطات الاحتلال والسلطة الفلسطينية تحول دون توسيع رقعة الانتفاضة والانتزاع المزيد من الإنجازات المعنوية لصالحها. فخيار السلطة واضح وهو نقض الانتفاضة والاستمرار في الحوار العبثي مع الكيان. للمزيد عن الموضوع يمكن مراجعة ورقة الأستاذ منير شفيق حول الانتفاضة.

ثانياً: الصراع العربي التركي

كما ذكرنا أعلاه فإنّ الصراع العربي التركي يتجلّى في أربع ساحات: الساحة السورية، والساحة العراقية، وفي ساحة الجزيرة العربية، والساحة المصرية. وهذا الصراع يعكس طابع العلاقات الملتبسة بين الدولة التركية والدول العربية. هذه العلاقة الملتبسة لها جذور تاريخية تعود إلى حقبة السلطنة العثمانية في العقود الأخيرة من عمرها ونظرتها للولايات العربية. كما أنّ ردّ فعل تلك الولايات تجاه السلطنة إبان الحرب العالمية الأولى خلق بيئة حاضنة لنظرية قطع العلاقة مع تركيا.

تركيا الكمالية أدارت ظهرها للوطن العربي وللعرب عموماً وتوجّهت في محاولة بائسة نحو الالتحاق بالغرب. وصول حزب التنمية والعدالة إلى السلطة شكّل منعطفاً كبيراً في التوجّه التركي نحو الشرق بشكل عام والوطن العربي ودول جواره بشكل خاص عبر سياسة «صفر مشاكل» التي تمّ الترحيب بها عربياً عندما أطلقت. لسنا في إطار مناقشة محاولات تركيا بنسج علاقات مع الغرب إلاّ أنّ ما يهمّنا هو موقفها من الصراع العربي الصهيوني في المرتبة الأولى ومشاريع إحياء الدور العثماني في الهيمنة على الوطن العربي عبر جماعة «الإخوان المسلمين».

فبالنسبة للعلاقة مع الكيان الصهيوني هناك تباين بين القاعدة الشعبية التركية التي تتعاطف مع القدس وفلسطين وبين الحكومة التركية وقيادتها. فالتطوّرات الأخيرة من إخفاقات تركية على الصعيد الدبلوماسي وخاصة مع روسيا دفعت الحكومة التركية لرفع درجة التنسيق مع الكيان إلى درجة الحالف الإستراتيجي. هل يصمد ذلك على الصعيد الشعبي في تركيا؟

أ – الصراع في الساحة السورية. قراءتنا للدور التركي في الصراع في سورية مبنية على اعتبارين. الاعتبار الأول يندرج في إطار طموحات الرئيس التركي اردوغان ووزير خارجيته داوود اغلو في إحياء مشروع العثمانية الجديدة واستعادة بعض المناطق في سورية وحتى العراق من تقسيمات «سايكس بيكو». كما أنّ فرض النفوذ على مختلف الأقطار العربية عبر توكيل جماعة الإخوان المسلمين قد يحقّق ذلك المشروع. اما الاعتبار الثاني فيعود إلى الطموح للعب دور الوسيط في تسوية الصراع العربي الصهيوني عبر عقد اتفاقية سلم في الحدّ الأقصى أو تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني في الحدّ الأدنى.

طموحات تركيا لم تتحقق مع الدولة السورية. لذلك انقلبت بشكل مفاجئ في ربيع 2011 على الدولة السورية قيادة وحكومة وشعباً وحتى أرضاً بعدما تبيّن لها أنّ كافة محاولاتها التي دعمتها الدولة القطرية للتطبيع مع الكيان الصهيوني قد فشلت كما أنها فشلت في حثّ الدولة السورية على مناهضة حكومة نوري المالكي في العراق لمصلحة أياد علاوي. والمعلومات المتوفرة حول تجهيز مخيمات للاجئين السوريين في تركيا التي سبقت اندلاع الاحداث الدامية تؤكّد ضلوع تركيا في تفاقم الأزمة في سورية مسبقاً لترويض في الحدّ الأدنى الدولة أو تغييرها في الحدّ الأقصى بعدما تهاوت رموز دول عربية كتونس ومصر وليبيا بشكل سريع مما عزّز وهم تكرار السيناريو في سورية. الحجة التي تقضي بضرورة إجراء إصلاحات جذرية بمثابة كلام حق يُراد به باطل.

المفارقة تكمن عندما تطالب قطر، شريكة تركيا في الأزمة السورية منذ البداية، بإصلاحات دستورية نحو المزيد من الديمقراطية! دعم تركيا لـ«الإخوان المسلمين» في سورية هو قرار بقلب النظام القائم في سورية.

سياسة استنزاف سورية الأميركية طبّقتها تركيا عبر فتح الحدود للمجموعات المتشدّدة معتبرة أنّ تلك المجموعة تحت السيطرة. حسابات الحقل لم تتطابق مع حسابات البيدر في ما يتعلق بـ«داعش». أما «جبهة النصرة» فما زالت تركيا تعتقد أنه بإمكانها السيطرة عليها وكذلك المجموعات الأخرى. الضغط الروسي والأميركي على تركيا لضبط الحدود ما زال قائماً. وتركيا تنظر بارتياب إلى إمكانية الجيش العربي السوري في إحلال السيطرة الكاملة على حلب واستعادة إدلب والرقة. نحن في هذه اللحظة.

استفادت تركيا بشكل كبير من سياسة الانفتاح الاقتصادي وفتح الحدود للبضائع التركية التي أطلقها الرئيس بشار الأسد. كان الوفاء لهذه الاستفادة بتفكيك أكثر من 6000 معمل في حلب وريفها ونقلها إلى تركيا.

ب – الصراع في الساحة العراقية. ما زالت تركيا تسعى لتصحيح نتائج الحرب العالمية الأولى وما زالت تطالب بالموصل. كما أنّ إقليم كردستان يشكّل بالنسبة لتركيا خطراً على وحدة تركيا وخاصة إمكانية انفصال كرد تركيا عن الدولة المركزية التركية وتشكيل كيان كردي على أطراف تركيا وسورية والعراق وربما إيران. فالمسألة الكردية مسألة مشتركة بين العرب والإيرانيين والأتراك من جهة والكرد من جهة أخرى وإنْ اختلفت المقاربات لها.

سياسة الحكومة التركية في العراق مبنية على قاعدة أنّ إقليم كردستان سيكون دائماً تحت مظّلة تركية خاصة وأنّ تركيا تعتبر الإقليم امتداداً لفضائها الاقتصادي وخاصة الثروات النفطية الموجودة فيها والتي لا يمكن لإقليم كردستان تصريفها خارج الإرادة التركية إذا ما أرادت قيادات الإقليم الانفصال النهائي عن الحكومة المركزية في بغداد. فالتناقض بين المصالح وخطر الانفصال الكردي هو سمة العلاقة بين تركيا وكرد العراق والحكومة المركزية في بغداد.

كما أنّ المطالبة بالموصل هي مصدر آخر للتوتر وقد يتفاقم بين الحكومة التركية والحكومة المركزية في بغداد.

ت – الصراع في ساحة الجزيرة العربية. الصراع في الجزيرة العربية هو مع دولتين من مجلس التعاون: بلاد الحرمين والإمارات العربية المتحدة. الصراع مع بلاد الحرمين وخاصة أسرتها الحاكمة تعود إلى عهد السلطنة العثمانية حيت أوكلت لمصر محمد علي مهمة تدمير الدولة الناشئة في الجزيرة العربية. الصراع على ترؤّس العالم الإسلامي ما زال قائماً. تبنّي تركيا لتنظيم «الإخوان المسلمين» من أسباب الخلاف مع الأسرة الحاكمة في بلاد الحرمين وإنْ جرى بعض التراجع عن العداء للجماعة مؤخراً وذلك بسبب الارتكاز إليهم في الحرب التي شنّتها حكومة الرياض على اليمن. الضرورة وتقاطع المصالح في الملف السوري وخاصة في دعم التنظيمات المتشدّدة في مواجهة الدولة في سورية جعلت ممكنة إجراء تحالف بين تركيا وحكومة بلاد الحرمين غلب عليه طابع الموقت. لكن التناقض مع تركيا ما زال قائماً خاصة أنّ الأسرة الحاكمة تسعى مجدّداً إلى التحالف مع مصر لإقامة توازن عربي مع الجمهورية الإسلامية في إيران. كما أنّ المصالح المشتركة بين تركيا والجمهورية الإسلامية سبب آخر للتوتر مع الأسرة الحاكمة في الجزيرة العربية. ونضيف أيضاً أنّ العلاقات الحميمة بين قطر الدولة الوهابية الأخرى في الجزيرة العربية والمنافسة لزعامة آل سعود في الجزيرة وتركيا واحتضان جماعة «الإخوان المسلمين» سبب آخر لجعل العلاقة متوترة مع تركيا.

النموذج التركي الذي يعرض محاولة تمازج الإسلام مع النظام الديمقراطي يزعج معظم الأسر الحاكمة في مختلف دول الجزيرة العربية. لكن النفوذ التركي في دول الجزيرة العربية ما زال ضعيفاً بسبب ثقل الإرث السياسي الموروث من الحقبة العثمانية. كما أنّ المشهد السياسي الداخلي التركي قد يؤثرّ على فعّالية السياسة التركية خاصة بعد الإخفاقات التي مُنيت بها في مختلف الساحات الساخنة في المشرق العربي.

ث – الصراع التركي المصري. التأزّم في العلاقات بين تركيا ومصر أكثر وضوحاً بسبب ثورة 30 يونيو/حزيران 2013 التي أطاحت بالرئيس محمد مرسي وأدّت إلى إخراج «الإخوان المسلمين» من السلطة ومطاردتهم. الموقف التركي كان واضحاً في إدانة التغيير القسري الشعبي في مصر ليس بالضرورة دفاعاً عن «الديمقراطية» بل بسبب تبخّر أحلام إحكام النفوذ على المنطقة العربية عبر حكم «الإخوان المسلمين». ففي ما يتعلّق بـ«الإخوان المسلمين» أصبحت تركيا مع حزب العدالة والتنمية الدولة القاعدة لذلك التنظيم. وليست محاولات التقارب بين بلاد الحرمين وتركيا إلاّ لتمهيد مصالحة أو هدنة بين الحكومة المصرية وجماعة «الإخوان». هل تنجح دبلوماسية الرياض وأنقرة؟ ما زال الوقت مبكراً ولكن الضغط الاقتصادي على مصر والتلويح بالمساعدة لن يوقف الحكومة المصرية على ملاحقة «الإخوان»، مما سيطيل الأزمة مع أنقرة. في هذه النقطة بالذات ندعو قيادات «الإخوان المسلمين» إلى مراجعة سياساتها وسلوكها وإيقاف الهجوم على رموز الدولة في مصر كما ندعو الحكومة في مصر على مراجعة سياساتها ايضاً تجاه «الإخوان المسلمين» تمهيداً لإعادة السلم الأهلي إلى مصر.

والتنافس بين تركيا ومصر مزمن أيضاً وذلك منذ حقبة محمد علي. وإذا أردنا الذهاب أبعد من ذلك فنعود إلى حقبة الحثّيين في هضبة الأناضول في التاريخ القديم وما شكّلوه من تهديد للأمن القومي لمصر الفرعونية. أما في العصر الحديث فالتنافس على الزعامة الإسلامية من قبل دولة عربية مصر وسلطنة غير عربية عثمانية في الشكل وتركية في المضمون حقيقي خاصة أنّ تركيا تستعيد توجّهها للشرق بعد خيبات الأمل التي حصدتها من المراهنة على الغرب على قاعدة وهم تلازم العصرنة والحداثة مع التغريب المصطنع. هذا ما يجب تشجيعه لأنّ تركيا المسلمة تشكل عمقاً للأمة العربية وفقاً لنظرية الدوائر الثلاثة التي تحدّث عنها وسعى إلى تحقيقها الرئيس الخالد الذكر جمال عبد الناصر إذا ما صحّت المقاربة والممارسة لهذا المحور. فالطرفان لهما المقومات للمطالبة بالزعامة سواء الحجم البشري أو الجغرافي أو السياسي مع الكفة الراجحة عربياً لمصلحة مصر طالما لم تجر مراجعة تركية لسياسات الحقبة الأخيرة من السلطنة تجاه العرب. كما أنّ العرب عليهم أن يراجعوا سياسات مبنية على التحالف مع الأجنبي المستعمر على حساب الوحدة السياسية والثقافية التي كانت تشكّلها السلطنة العثمانية وما تلاها من عدم استقرار ما زلنا نعيشه حتى الساعة. للمزيد في الموضوع نشير أن مركز دراسات الوحدة العربية اقام حلقة نقاشية في أواخر شهر آذار/مارس هذا العام تناولت مختلف القضايا بين العرب وتركيا، وستنشر الورقات المقدمة والنقاش في عدد أيار/مايو لمجلّة «المستقبل العربي».

نعتقد أنه من الضروري إقامة مراجعة مزدوجة عربية وتركية لتصحيح مسار الأمور على قاعدة أنّ العرب والأتراك أتراك وأنّ المصالح مشتركة وغير متناقضة إذا ما نظر إليها من زاوية التكامل والتعاون وليس من زاوية التنافس والقوّامة لطرف على الطرف الآخر.

ورقة قدّمت في المؤتمر القومي العربي في حمامات ـ تونس 19 – 20 نيسان 2016

أمين عام المؤتمر القومي العربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى