مختصر مفيد حلب… وثلاث معارك دفعة واحدة!

تتقدّم حلب كمسرح لأشرس حروب المنطقة منذ حروب «إسرائيل» في لبنان وغزّة. تبدو أنها جولة في حرب تشهدها سورية منذ خمس سنوات، لكنها حرب قائمة بذاتها، فلها قضيتها المستقلة ولها قواها الخاصة، ولها روزنامتها الحاكمة والحاسمة في توازنات المنطقة. ورغم ما تمثّله حرب حلب التي تبدأ للتوّ من تكوّر دراماتيكي لمشاهد الحرب السورية، فهي ليست مجرد فصل من فصولها. فحلب خلال الأسابيع المقبلة ستكون على موعد مع حرب حروب المنطقة وسورية، بديلاً عن حرب اليمن، وعن حرب «إسرائيلية» لم تقع، وعن حرب تركية تتهيّب قيادتا الحكومة والجيش الخوض فيها. والكل يرى كلفة حرب حلب أقل عليه من حربه، ويرى فرضية الحصول على عائدات منها أكبر. ولو بقياس حجز المقعد التفاوضي الإقليمي الذي لم يعد متاحاً كسبه من حروب أخرى.

شكّلت «جبهة النصرة» خلال سنوات الحرب على سورية المفصل الأهم عسكرياً في حروب التحالف الإقليمي السعودي ـ التركي ـ «الإسرائيلي» الذي كان مستوراً في البدايات وصار علنياً منذ سنة وأكثر. وخلال سنوات الحرب كان يتضح أكثر فأكثر أنّ «النصرة» بما هي فرع «القاعدة» الرسمي، تمثل الثقل العسكري القادر على الجذب والتنظيم واستقطاب المقاتلين، بينما بدا أن إحدى الوظائف المطلوبة من احتضان «داعش» أو احتوائه أو استيلاده، كان تبييض «النصرة» وتقديمها شريكاً مطلوباً للحرب على «داعش»، بداعي التناظر والقدرة على التفكيك، والانتماء إلى الجنس ذاته، وبداعي القدرة، وبداعي أن الدولة السورية عاجزة عسكرياً وسياسياً وطائفياً عن تحقيق النصر، لأنها عاجزة بنيوياً وفقاً للمنظور الذي روّج له وزير الخارجية الأميركي جون كيري، عن محاكاة الشرائح الطائفية التي يشتغل عليها كل من «النصرة» و«داعش»، كما شرح باستفاضة رئيس الاستخبارات الأميركية السابق ديفيد بتريوس نظريته التي قالت باستحالة النصر على «داعش» من دون «النصرة»، والتي قابلها روبرت فورد السفير الأميركي السابق في دمشق بنظيرتها التي تقول لا بدّ من «أحرار الشام»، وكلها نظريات تقوم على معادلة «وداوِني بالتي كانت هي الداء»، والتي جاءت حرب تدمر التي خاضها الجيش السوري تصيبها في الصميم، وتثبت برانيتها في فهم الواقع السوري، وتظهر أصحابها مجرّد هائمين في أحلام وأوهام، يعيشون الغربة عن الواقع.

شكّلت «النصرة» نواة «سورية الجديدة» وفقاً لمفهوم تحالف تركي ـ سعودي ـ «إسرائيلي» يرعاه الأميركي ضمناً. فوجود «داعش» يدفع لتخفيف وطأة قاعدية «النصرة»، ويسهّل هضم غلاظتها وتوحّشها. وصانع الإسمين يحسبها جيداً، اسم رحوم واسم منفر. وخيضت حروب سياسية وإعلامية لتبييض «النصرة»، عطّلت «جنيف الثاني» ولا تزال تعطل الثالث والرابع، وجاء التموضع العسكري الروسي ودعمه الاستثنائي للجيش السوري وحلفائه خلال أربعة شهور سبقت الإعلان عن الهدنة، ليضع معادلة مشروطة لأيّ بحث بمسار سياسي، قوامها وضع «النصرة» خارج السياق السياسي، وتصنيفها على لوائح الإرهاب، وتواصل الضغط الروسي السوري العسكري حتى ولد القرار الأممي وتلاه اتفاق الهدنة، وما فيهما من وضوح لجهة المسار السياسي المغلق على التشكيلات الإرهابية، والذي يقطع الطريق على وضع شروط دولية وإقليمية تتصل بالرئاسة السورية، وحصره بصفته شأناً يخصّ السوريين وحدهم. وحسمت الهدنة وضع «النصرة» كفصيل إرهابي لا مكان له في العملية السياسية.

كانت الهدنة رهانين متعاكسين، رهان سورية وروسيا والحلفاء على قطاف مبكر وسريع لتدمر يحمي الحوض الاستراتيجي المحيط بدمشق، ويفقد «داعش» صفة المشروع الذي يستمده التنظيم من وجوده في تدمر وفرص التواصل مع جبهات وخطوط تتصل بالعاصمة وأمنها، وبلبنان وصولاً إلى التخوم مع الجولان والأردن، فيصير طابع المشروع الإقليمي حاضراً للتنظيم، وينتهي من دون تدمر. وحسم تدمر يتيح حسماً بالوقائع للنقاش حول تحديد القوة البرية المؤهلة للحسم مع «داعش»، وتظهير المكانة التي يحتلها الجيش السوري في هذا السياق في مقابل فشل تجارب البدائل التي سمّاها الأميركيون «المعارضة المعتدلة»، ومحدودية قدرة البديل الكردي وجغرافيته، ولاواقعية فرضية «النصرة»، فيصير الانتقال للحرب على «النصرة»، في سياقاته الطبييعة الزمانية والسياسية والاستراتيجية، بما هي حرب خيارات وإرادات.

حرب حلب هي حرب «النصرة» كما قال ستيف وارن الناطق بلسان التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن ضدّ «داعش». وهي حرب لا تتعارض مع الهدنة وأحكامها، لكنها بالنسبة إلى حلفاء واشنطن آخر حروبهم، السعودية بعد حرب اليمن تحتاجها، وتركيا تحتاجها بديلاً عن المنطقة الآمنة و«إسرائيل» تراها بديلاً عن حزامها الأمني، وضمها الفارغ للجولان، لأنهم يراهنون أنها ستطول وتفرض طاولة تفاوض تشبهها، بينما يستعدّ السوريون وحلفاؤهم لجعلها تكراراً ولو بزمن أطول وكلفة أعلى لتجربتهم الناجحة في تدمر.

ناصر قنديل

ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى