الانتخابات البلدية: سخونة في القاعدة وبرودة في رأس الهرم

علي بدرالدين

السخونة التي تشهدها المناطق اللبنانية تزامناً مع الانتخابات البلدية والاختيارية التي تنطلق مرحلتها الأولى في الثامن من أيار، لا تعني أنها ظاهرة صحية أو تعبير عن أهميتها وقيمتها في الحياة السياسية والديمقراطية والتنموية. لأنّ هذه الانتخابات لم تجسّد في كلّ استحقاقاتها التي عبرت، وعلى مدى عقود ضرورتها الوطنية والإنمائية. ولا أهدافها المرجوة المتمثلة بحرية المواطن وحسن اختياره والتعبير عن رأيه في أجواء ديمقراطية بعيدة عن التدخلات السياسية والزعائمية أو الفرز الطائفي والمذهبي، وبالتالي فرض أسماء بالقوة القاهرة. لا دور لها ولا وظيفة ولا مكان في الفضاء التمثيلي للناس وحتى الافتراضي، كما أنها تفتقد إلى الحدّ الأدنى من الوعي الكافي لفهم الأنظمة والقوانين التي يخوّلها القيام بالممارسة الصحية للعمل البلدي الذي من نجاحه وجود مجالس بلدية متجانسة وكفوءة ومتفانية من أجل الخدمة العامة. وتنأى بنفسها عن المصالح الشخصية والتمييز بين أبناء بلدتها على خلفيات انتخابية أو حزبية أو عائلية كردّ فعل ثأري من الآخر المعارض لمصالحها وتوجّهاتها ولائحتها، المدعومة بالسلطة والنفوذ والمال. والأخطر هو انتخاب رؤساء بلديات وأعضاء مجالس بلدية يقيمون ويعملون في بيروت مثلاً ويزورون بلداتهم في نهاية كلّ أسبوع، وباتوا يُعرَفون برؤساء بلديات السبت والأحد، وحتى «يكتمل النقل بالزعرور»، كما يقول المثل العامي الشائع، فإنّ هناك رؤساء بلديات يقيمون ويعملون خارج لبنان ويمارسون مسؤولياتهم من خلال تكليف أحد أعضاء المجلس البلدي أو كاتب البلدية أو أمين صندوقها أو حتى شرطي البلدية بمهام إدارة البلدية التي يعجز عنها حتى رئيس البلدية في حال وجوده. فكيف لمن ينوب عنه وهو الفاقد للصلاحيات اتخاذ القرارات أو توقيفها أو متابعة معاملات مواطنيه اليومية.

وبات الواتسآب أو التسجيل الصوتي، هو الذي يربط رئيس البلدية الغائب لأشهر عديدة بقضايا بلدته وناسه «وطحين بدك تاكلي يا حنة».

وهذا لا يُعفي القوى السياسية الحاكمة والمطلقة الصلاحية في اختيار أعضاء المجلس البلدي ورئيسه من مسؤوليتها وهي المهيمنة والمتحكّمة والقادرة على فرك أذن كلّ من يتجرّأ على مواجهتها وعدم تنفيذ أحكامها وأوامرها، في تعيين رؤساء البلديات ليس على قاعدة الأكفأ والأصلح، كما أنه ليس صحيحاً على أساس الاختيار العائلي. والدليل أنه على خريطة المجالس البلدية أو المختارين، فهناك رؤساء بلديات لا تمثيل عائلياً لهم وهم من أقلّ العائلات عدداً، ولكنهم نالوا رضى القائد أو الزعيم ليس لأنهم أكفياء أو ممّن يمتلكون الخبرة والتجربة الناجحة والثقافة المطلوبة، بل لقربهم من مواقع القرار السياسي والطوائفي والزعائمي، ولإخلاصهم وطاعتهم العمياء.

إنّ الفشل الذريع الذي أصاب الكثير من البلديات الكبيرة والصغيرة على السواء، وقد تفرّق أعضاؤها المنتخبين زوراً، ومزّقتهم الخلافات الشخصية والحسابات المنفعية الضيقة، وتمّ وضعها في خانة البلديات المنحلّة التي تحوّلت عالة على المواطنين وخيّبت آمالهم وطمست أحلامهم بأيّ تغيير.

إزاء النتائج السلبية لمعظم المجالس البلدية التي باتت خارج الخدمة والشأن العام ومصالح الناس، لأنّ ما بُني على فساد وتزوير هو فاسد ومزوّر. لماذا هذا الحماس من القوى السياسية المتسلّطة لإجراء الانتخابات البلدية، وهي التي عجزت وفشلت في الاختيار السابق، ولا تزال مُصرّة على السير به شكلاً ومضموناً، وهي التي فشلت أيضاً في كثير من الاستحقاقات الدستورية؟

هذا لا يعني على الإطلاق أننا ضدّ إجراء هذه الانتخابات التي هي واجب وضرورة، ولكن ظروف إجرائها وهيمنة السلطة وكبارها وطبقتها الحاكمة لا تجعل منها واجباً وضرورة. وهي من العوامل ومن أحد أسباب القوة القاهرة التي ترفض مَن تشاء وتختار مَن تشاء من دون اعتراض، لأنّ دونه نتائج وتداعيات لا أحد يقدر على الوقوف بوجهها.

وأين هو الحماس المفرط والزائد الذي ظهر فجأة في الاستحقاق البلدي والاختياري وكان غائباً في الاستحقاق النيابي؟ وأين هو الاستحقاق الرئاسي، حيث الفراغ سيّد سدة الرئاسة؟ أين هو من التمديد في رئاسة الجمهورية وفي مواقع إدارية ومالية وعسكرية وأمنية وثقافية واقتصادية؟

الإجابة تكمن في محاولات الطبقة السياسية التي تهدف إلى تبييض صفحاتها السود على حساب اللبنانيين، وإن كان بإدخالهم في نزاعات حزبية وعائلية وطائفية ومذهبية، وهي إلهائية بامتياز بعد أن تحوّل لبنان مستوعباً للفساد الذي بات مكشوفاً ومعلوماً في الملفات كلّها، وهذه الطبقة هي التي تتحمّل المسؤولية دون سواها، وهي تريد من هذه الانتخابات التي تتحمّس لإجرائها أن تُغرق اللبنانيين بصراعات الشوارع والأحياء والعائلات حتى تفقد وعيها الوطني وتنغمس بتجاذبات على المواقع والأسماء والتي لا يحظى بها سوى المقرّبين من السلاطين وأمراء هذا الزمن… وهم يدركون حجم هذه المجالس الفاشلة ونوعها سلفاً، لأنها مصادرة في قراراتها ومشاريعها قبل أن تبدأ، والكلمة الفصل لمن أنزلها بـ«البراشوت» في ليلة القبض على هذا المجلس أو ذاك.

تقول مديرة معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية الفرع الخامس الدكتورة سناء الصباح في دراسة لها عن المركزية والإدارة المحلية في التنمية «أنّ الإدارة المحلية أو اللامركزية في لبنان على مستوى واحد هو البلدية. فالبلدية هي الخلية الاجتماعية الأساسية في البلاد، في حين أنّ التقسيمات الإدارية الأخرى كالمحافظات والأقضية هي تقسيمات مجردة ترتبط بجهاز الدولة المركزي، ولا تعكس واقعاً اجتماعياً معيناً، كما هي حال البلديات.

تضيف الصباح: «البلدية هي ركن أساسي في تنمية المجتمع المحلي وفي تطوير وضعه الاقتصادي والسياسي والتربوي والصحي والبيئي وفي التنشئة الوطنية انطلاقاً من تماسكها المباشر مع الكتلة البشرية التي تقع ضمن مسؤولياتها… وتعتبر البلديات الشريك الأوثق مع السلطة المركزية في تنفيذ جداول أعمال التنمية على المستويين المحلي والوطني. والبلدية هي إدارة محلية تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري في نطاق القانون فمن اختصاص المجالس البلدية إقامة المشاريع الإنتاجية وتحقيق التنمية المحلية… هذا القانون الذي يأخذ بعين الاعتبار الإرادة الشعبية المجسّدة في إيصال ممثليها إلى سدّة المجالس البلدية الديمقراطية التمثيلية .

السؤال: هل تنطبق نصوص القانون على الواقع لجهة طريقة انتخاب أو تعيين أعضاء المجالس البلدية أو لجهة دورها ووظيفتها؟ وأين هي الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التشاركية التي تجعل من البلدية «نواة تغيير محلية وأهمّ قاعدة لممارسة الديمقراطية ولتعزيز مفاهيمها؟»، وفق الدكتورة الصباح.

يبقى القول إنّ إجراء الانتخابات البلدية في مواعيدها أو اللجوء إلى التمديد أو التجديد للمجالس البلدية القائمة ليس ذا قيمة أو منفعة، إذا لم تتغيّر العقلية السياسية الطائفية المذهبية في تنظيم وإدارة الانتخابات. وفهم أهميتها على مستوى المجتمع المحلي والتنمية المنشودة، واختيار الأنسب والأكفأ من القوى السياسية وممثلي العائلات وفئات المجتمع المدني. لأنه إذا لم يتغيّر النهج المتبع من القوى السياسية، فحرام أن نُدخل اللبنانيين في صراعات عائلية قد تؤسّس لعداوات وتقاتُل من أجل مركز بلدي أو مختار لا قيمة عملية لهما في ظلّ تحكم الطبقة السياسية الحاكمة وطغيانها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى