جرجي بيطار… حارس فنّ الموزاييك ومؤسّسه

لورا محمود

شغفه بالموزاييك جعله يُخرج هذه الحِرفة الشامية من حارته في «باب توما»، لتصل أعماله إلى غالبية دول العالم حتى دخلت مقر الأمم المتحدة. الفنان جرجي بيطار، واحد من أشهر روّاد الموزاييك الدمشقي، فقد ظهر الموزاييك على يده كحرفة تعتمد على الشكل المتماسك أو الرسم المصنوع من مكعّبات صغيرة الحجم، جُمعت مع بعضها لتعطي شكلاً مسطّحاً أو شكلاً ثلاثيّ الأبعاد بزخارف متعدّدة. فاستطاع بيطار أن يحوّل المادة الساكنة إلى فنّ خلّاق وجميل.

حياته

جرجي بيطار هو مؤسّس صناعة الموزاييك قبل حوالى مئتي سنة. أخذ فكرة الموزاييك عن الفسيفساء، وكان النجّار الدمشقيّ الأول الذي يُنزل بالخشب نوعاً آخر ذا لون مختلف، ثم تنزيل العظم والعاج حتى أصبح هذا الفن يشمل غرف الاستقبال في القصور والمنازل الدمشقية القديمة.

ولد جرجي بيطار عام 1840 في الحارة الجوانية في منطقة باب توما ـ دمشق، وينتمي إلى عائلة امتهنت البيطرة حرفة لها، إذ حاول والده جبرائيل أن يعلّمه مهنة الأجداد، لكنه كان ميّالاً إلى النجارة، حيث كان يتردّد إلى سوق النجارين ويبتاع عدّتها لإصلاح الأبواب والشبابيك. ولما تحقّق والده من نجاحه الباهر في تلك الصناعة، افتتح له حانوتاً صغيراً في الحارة الجوانية.

انتسب جرجي إلى أخويّة سيّدة البشارة للرجال عام 1854، وهو ابن 14 سنة، فصارت للعذراء مريم المكانة العظيمة في قلبه بعد تحصيله العلمي والأدبي، وعاشر معلّمي الدير وسعى معهم إلى خدمة الفقراء.

أدرك جرجي أنّه إذا ما أتقن صنعته الجديدة، ونجح في التجارة بها، حقّق مالاً وافراً يخدم به الفقير والمحتاج، وهذا ما أراده منذ أن كان طفلاً.

أسّس مركزاً لفنّ التطعيم بالخشب «منجور الموزاييك» الذي ابتكره. وراح يصنع أصناف الأثاث البديع الفاخر والقطع الفنّية الجميلة التي تمثّل الإبداع الإنساني والعراقة السورية والفنّ الدمشقيّ الخالص. وقد نشأت الفكرة عام 1860 لمّا رأى شجرة ليمون يابسة في باحة دير الآباء الفرنسيسكان، فنشرها قطعاً، وفصّلها، وحفر لوحاً من الجوز الغامق ونزّل فيه عروقاً وزهوراً مختلفة بأشكال هندسية دقيقة.

عمل جرجي بيطار، حتى نهاية حياته، في أصالة الفنّ وإتقانه، فتعلّم منه عدد كبير من العمّال وتخرّج في مدرسته تلامذة مشهورون درَّبوا بدَورهم عشرات الحِرفيين الدمشقيين حتى بلغ عدد العاملين في صناعة الموزاييك بين العامين 1920 و1940 أكثر من 1000 شخص. وتطوّرت الصناعة في ميدان تجاريّ بحت انتشر في العالم كلّه.

أعماله

عمل بيطار على تزيين كنيسة الآباء الفرنسيسكان، وكذلك كاتدرائية سيّدة النياح وبيوت دمشقية كثيرة، فذاعت شهرته وتخطّت حدود بلاد الشام إلى الغرب، وصار الفنّ الدمشقيّ مرادفاً لاسم جرجي بيطار. وأخذ يهدي الأديار والمتاحف المسيحية تحفه الفنّية المتعدّدة.

عام 1863، كان أوّل المشاركين في تأسيس جمعيّة مار منصور الدمشقية وأصبح فيها عضواً عاملاً وناشطاً. وصار رئيساً لها 1896 1901 . وقام فيها بأعمال خيرية وروحية، في دمشق وخارجها حتى لُقِّب «مار منصور دمشق». شارك عام 1891 في معرض فيينا لتمثيل الصناعة الدمشقية، وسافر إلى باريس عام 1892 لينصب قطعاً فنّية وأشغالاً وأيقونات كان قد اشتغلها لكنيسة القدّيس يوليانوس الفقير التي تسلّمتها طائفته هديّة من الحكومة الفرنسية عام 1888.

عام 1895 استدعاه سعيد باشا والي دمشق لإرسال هدية نفيسة إلى السلطان عبد الحميد لمناسبة المعرض الصناعي في اسطنبول. فصنع 50 قطعة فنّية من خزائن ومكاتب وكراسٍ. وأشرف بنفسه على إيصالها إلى اسطنبول. فوصلت إليها وقد نالت إعجاب السلطان، فنقده مبلغاً وافراً من أجل مشاريعه الخيرية، وأنعم عليه بوسام المجيدي الخامس وبميدالية الافتخار الفضّية، وهي بمنزلة براءة اختراع الآن.

أبى جرجي بيطار لتواضعه ومحبّته الخير أن يطلب امتياز الفنّ الذي اخترعه، كي ينتشر بين الناس ويكون مصدر رزق لهم.

عام 1904، منحته لجنة الجمعية الزراعية الخديوية في مصر الجائزة الأولى في المصنوعات الخشبية. توجه بيطار بعدئذٍ إلى روما عام 1908، حاملاً معه الخزانة المهداة إلى البابا بيوس العاشر لتكون أعظم وأجمل هدية في الفاتيكان. كما أهدى طاولة من الخشب المطعّم بالصَّدف والموزاييك لمقر الأمم المتحدة، ويقال إن القرار «2424» تم توقيعه على هذه الطاولة.

جاء بيطار بمفردات جديدة وأعطاها قيمة جمالية جديدة من خلال إدخال نسيج جديد من الأشجار، فكان دقيق الملاحظة حيث عرف ألوان الأشجار، كخشب الجوز الذي يتمتع باللون البنّي، والليمون بالأصفر واللون المشمشي، والكينا بالأحمر، والزيتون بالأخضر. كما تمكّن بيطار من خلال محاكاة المادة الساكنة بفعل روحيّ خالص وعشق للجمال الزخرفي والتشكيل الهندسي، أن يبدع في هذه الحرفة ليصبح الموزاييك السوري سفيراً إلى معظم دول العالم، وليخلق بيطار الإيحاء الذاتي ويدمجه بالعمل اليدويّ والمتعة الحرفية والتقنية بصيغة مركّبة تتداخل فيها العناصر اللونية والصدفية البيضاء والخشب المطعم والسطوح الملساء المصقولة.

وقد وصلت أعماله إلى غالبية دول العالم، وكرّس نفسه وأعماله لفعل الخير، وأضاف بابتكاره إلى فنّ الموزاييك حرفة فنية اختصت بها سورية.

يذكر أنّه تخرج من مدرسة جرجي بيطار الذي توفي عام 1935، عدد كبير من الحِرفيين الذين أبدعوا في هذا الفن الدمشقيّ الأصيل، حيث فتحوا حوانيت وورشاً وعلّموا ودرّبوا عشرات الحِرفيين في هذه الصناعة الدمشقية، نذكر منهم: الياس اسطفا،ن، أنطون بييت، جرجي شنيارة، ميشال شنيارة، نقوت حوش، سميم صارجي، متري بييت، يوسف حوش، ميتائيل مقحط نقوت زحلاوي، أنطون فرنسا، جرجي تباز، فرنسيس أشقر، وميشال طعمة الذي نقل ورشته إلى بيروت عام 1860.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى