«أمُّ الطرب» صامتة

رشا ريّا

تركوا أحلامهم تحت الركام في حلب. وهم يرحلون نظروا إلى الخلف فرأوها تلوّح لهم مودعة بالمناديل ذاتها التي لطالما رافقت «قدودهم» وليالي أنسهم فيها. لا خطوة تشبه أخرى.. الخطوة الأولى رحيل عن طفولة في أزقتها.. والثانية عن مقعد في مدرسة مُعمّدٍ بخربشات المراهقة.. الثالثة ترتّل ياسين وتطلب السماح من قبور الأحبّة.. لا خطوة تشبه أخرى، في اللاذقية – إلى حيث وفدوا – كان الهواء بحرياً رطباً لا يحمل رائحة البهارات وليست له قدرة على إيصال نغمات الحجاز والبيات، لكنهم – وكما عهدهم الشارع السوري دائماً – كانوا قادرين على إثبات أنفسهم، طوّعوا المدينة الكسولة بإيديهم التي لا تجيد إلا البناء، فأعادوا تأسيس منشآتهم التي أبادتها الحرب ولو على نحو متواضع، كيف لا وهم أبناء المدينة الصناعية – التجارية العربية الأولى.

وعملاً بمبدأ الكارما العاقبة الأخلاقية سخّرَ القدر اللاذقية لتحتضن الحلبيين، وكأنما الكون وأرواح آلاف الأرمن تقول لحلب «شكراً يا شهباء»، ولو بعد مئة عام على المجزرة.

التعايش «اللاذقاني الحلبي» كسا معالم المدينة وبات جزءاً منها.. أتت الهدنة فاستبشر بعض الحلبيين خيراً وعادوا لمدينتهم، لم يكادوا يصلون حتى عادت حلب لتنزف وجراحها السابقة لما تلتئم بعد، بعضهم لقوا مصرعهم وأضحوا رماداً فوق حطام منازلهم، وبعضهم باتوا خبراً تتسابق وسائل الإعلام لتغطيته، كل منها حسب أيديولوجيته المنظومة الفكرية يختار العنوان ويقتبس من المعاجم مفردات الإنسانية التي يحب، وتنتشر الصور المأساوية لأشلاء وأجسادٍ غضة وكأنما يصرّ نيسان بين الحين والآخر على استرجاع مشاهد «قانا»، صرخ الأطفال… لطم الشيوخ، وما من مفردات تصف ما فعلته أو قالته أمٌّ لم تكن النار برداً وسلاماً على أولادها، علَّ العالم يسمع ولكنهم صمٌّ، عميٌّ بكمٌّ لا يفقهون.

بكت اللاذقية حلب، بكتها بعيون أطفالٍ توجّب عليهم العمل ليعيلوا عائلاتهم المنكوبة الوافدة، بكتها بعيون كلّ رجلٍ خسر عمله، ولكن ابتسامة الرضا على وجهه تعكس ثقته بأنه سيعود، كما لعنت اللاذقية وكلّ سورية الإمبراطورية الحاقدة على حلب، الإمبراطورية التي تدفع مصاريف عزرائيل وأتباعه كافة، الإمبراطورية التي تريد حلب أثراً بعد عين علّها تجد طربوشها الضائع تحت أساسات المدينة القديمة، وتردّ الصفعة صفعات للحلبيين الذين تحدّوها قبل قرن من الآن.

يوم نهضت حلب بذاتها على مفترق حضارات وعداوات، وأسّست للفكر منابر، لم ترتجِ من أحدٍ معونةً ولم تستجدِ صلاة، لكنها اليوم بأمسّ الحاجة لتسمع بصوت كلّ سوري، وكلّ إنسان «كلما رحّبت بنا الروض قلنا حلب قصدنا وأنت السبيل».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى