أين نحن… وإلى أين؟ وما هي سبل الوصول؟

وليد زيتوني

دشنت الحرب العالمية الأولى مرحلة ضياع الهوية القومية في منطقتنا، باتفاقية احتفالية، أسمتها سايكس- بيكو. اتفاقية وضعتنا على خط الاشتباك الاستراتيجي المحدّد بجغرافيا الطوائف والملل والنحل.

لم تكن هذه الاتفاقية كباقي الاتفاقيات، عقد بين طرفين معنيين بقضية واحدة. ففي هذه الاتفاقية كان صاحب القضية مغيّباً بفعل القوة المسيطرة عسكرياً. وحتى تلك الوكالة المعطاة من قبل عصبة الأمم للانتداب آنذاك، هي وكالة مزوّرة لأنها اعتمدت مبدأ أسمته قصور القدرة على الحكم. وهي مسألة، بل جريمة فيها نظر.

فعصبة الأمم تشكلت من الدول المنتصرة في الحرب. وقد أثبتت الأيام والوقائع التي تلت قيامها أنها منظمة فاشلة وجائرة وغير متوازنة، وأدّت في ما بعد الى اندلاع الحرب العالمية الثانية كنتيجة طبيعية لانحرافها عن الأهداف المعلنة التي غلّفتها. باختصار انها منظمة باطلة وقد أبطلت نفسها بنفسها. وعليه تصبح الوكالة الصادرة عن أساس باطل باطلة حكماً لغياب التبرير القانوني التي ساقته هذه المنظمة.

ورغم ذلك ظلت الإجراءات المتخذة من قبلها في بلادنا قائمة، ومنها الوكالة عن الدول المستضعفة والضعيفة. بل أكثر وأخطر من ذلك ظلت الدول المنشأة بتدبير من أصحاب الوكالة الباطلة قائمة فعلاً على أرض الواقع رغم بطلان السند القانوني، ويصبح «لبنان الكبير»، مثلاً، دولة بقرار صادر عن المندوب السامي الفرنسي.

انّ خطورة هذه الاتفاقية ليست بأنها جزء من تاريخ دولة، أو محطة في تاريخها كما هي الحال في «معاهدة فرسايّ» كمرحلة من تاريخ الصراع الألماني الفرنسي، أو اتفاقيات تعالج العلاقات بين دولتين على المستويات السياسية والعسكرية وحتى التجارية، وإنها ليست كالاتفاقيات الجماعية الصادرة عن الأمم المتحدة التي تلزم فقط الموقّعين عليها. فهنا الطرف المعنيّ الأول صاحب الحق غير موقّع عليها، ولم يؤخذ برأيه بتاتاً. بل الخطورة تكمن بأنها أسّست لتاريخ جديد مبنيّ على مصالح غير أصحاب الحق والأرض. وهو ما نشهد نتائجه اليوم في هذه المنطقة.

لقد أرست هذه الاتفاقية نوعاً من الإدراك الخاطئ لمفهوم الدولة والشعب والوطن، بحيث عززت قناعات البعض بأنّ مجموعة من الطقوس الطائفية والعادات والتقاليد تشكل ثقافة أمة، وانّ بعض الامتيازات الاقتصادية تعطي مشروعية دولة، وبالتالي من كان خارج هذه «الثقافة» المزيّفة، وخارج نطاق الامتياز الاقتصادي هو بالمطلق ليس منّا واستطراداً هو معاد بالمعنى «القومي» أو «الوطني».

لقد طاولت اتفاقية سايكس – بيكو كل سورية الطبيعة وتقاسمت فرنسا وبريطانيا «الجبنة». غير انّ هذه الاتفاقية لم تصبح واقعاً كما خطط لها آنذاك وإنما رفضت من قبل البعض في الشام. ولم تنشأ «دولة حلب» وكذلك «دولة الدروز» في جبل العرب، و«الدولة العلوية» في شمال غرب سورية. وإنما قامت الثورة السورية الكبرى ضدّ الفرنسيين رداً على التقسيم، وبقيت الشام دولة واحدة بعدما خرج لبنان على قاعدة التمايز الطائفي، وخرجت فلسطين والأردن والعراق بفعل الدور الانكليزي الذكي، الذي استطاع تجنيد بعض النافذين حتى في مناطق النفوذ الفرنسي تمهيداً لترسيخ التقسيم. فبينما قيّض للشام رجال دافعوا عن الوحدة والاستقلال، تصارع أصحاب الشأن في الكيان اللبناني على قاعدة التبعية إما لفرنسا أمثال إميل إدّه وآل الجميّل وآل جنبلاط والكتلة الوطنية، أو التبعية للانكليز أمثال بشارة الخوري ورياض الصلح وكميل شمعون وجمهور الكتلة الدستورية.

أما في فلسطين التي عانت الأمرّين من الاحتلال الانكليزي ورغم الثورات المتعددة كان «وعد بلفور» قد أخذ طريقه الى التنفيذ بعدما تركت وحيدة بعيدة عن أمها الحقيقية سورية.

بعد مرور ما يقارب المئة عام، يبدو أننا قد صدقنا الكذبة التي اسمها سايكس – بيكو، وعملنا بموجبها، بينما الغرب الذي أوجد هذه الكذبة لم يرتح لنتائجها فجاء الاستدمار، وليس الاستعمار، بنسخته الجديدة الممثلة بالولايات المتحدة الاميركية ليعيد صياغة الجغرافيا على اسس جديدة تتلاءم مع مصالحه هو وليست مصالح أوروبا البائدة.

التاريخ يرتسم من جديد

غير أنّ النتائج التي رسمتها الاتفاقية، لم تكن وليدة ساعتها عام 1916، وإنما كان التحضير لها على قدم وساق من مديات بعيدة زمنياً. ففي لحظة بروز الدولة القومية في القرن التاسع عشر لم نكن جاهزين مادياً ومعنوياً لتلقف فكرة التحوّل العالمي الحاصل على المستوى السياسي. وبالتالي لم نتلمّس بعد، معنى ومضمون الهوية القومية للأسباب التالية:

أولاً: وجودنا تحت سيطرة الامبراطورية العثمانية التي كانت تعاني سكرات الموت نتيجة لأوضاعها الاقتصادية المتردّية، وخسارتها العسكرية أمام القوى الاستعمارية آنذاك، وخاصة تدمير أسطولها البحري في نافرين عام 1826، ومن ثم عدم استقرار أوضاعها الداخلية، اثر انقلاب الثلاثي القومي الطوراني على الخلافة العثمانية المتلبّسة اللبوس الأيديولوجي الديني.

ثانياً: تدخل الدول الكبرى في المناطق التي تسيطر عليها الخلافة العثمانية تحت عناوين رعاية الأقليات الطائفية، ومن خلالها، ركزّت على المستشرقين والدلالين والإرساليات لضرب البنى الجيوثقافية الموجودة، التي كانت تحتفظ لتاريخه بخصوصياتها القومية.

ثالثاً: كانت المنطقة تعيش حالة اقتصادية مزرية كمحصلة للجشع الإمبراطوري العثماني من جهة، وكنتيجة للهجمة البدوية الصحراوية التي قامت بها قبائل العنزي القادمة من الجزيرة العربية من جهة أخرى، حيث فاقت بهمجيتها واتساعها ما فعله هولاكو. لقد دمّرت هذه الهجمة سبعة آلاف قرية وبلدة من حلب شمالاً الى صفد وحيفا ويافا جنوباً، فحرقت جميع المحاصيل الزراعية وقطعت الأشجار ونكّلت بالسكان قتلاً وتهجيراً تحت الرعاية العثمانية، وأنظار القناصل الأوروبيين.

رابعاً: تردّي الوضع العلمي والثقافي ودخول المنطقة في مرحلة الانحطاط بسبب الممارسات القمعية العثمانية، وهجرة الكوادر العلمية، وتغلغل ثقافات غربية متعارضة مع القيم السائدة، لم تستسغ، حينها، من قبل النخب المتلقّية.

خامساً: تحوّل عصبة الأمم الى منظمة ضامنة لحقوق الدول الكبرى المنتصرة في الحرب، على حساب الدول والشعوب التي كانت تحت مظلة الدول المهزومة، حيث انتقلت هذه الشعوب من استعمار إلى استعمار آخر من دون أن يكون لها ايّ دور في تقرير مصيرها.

تحت مظلة هذا الواقع، وغياب الأطر السياسية والثقافية والاقتصادية المحلية الناظمة، تمدّدت المشاريع الجيوبولتيكة الإقليمية والدولية لتأمين مصالحها، التي اشتبكت وتشابكت على أرضنا وعلى حساب مصالحنا. فدخلنا في دوامة اشتباك دائم لا يزال مستمراً حتى يومنا هذا، من خلال دوائر ثلاث.

دائرة ذاتية: تختلط فيها قواعد الصراع ما بين، وفي، الهوية القومية، والهوية الدينية، والهوية المذهبية، والهوية الإثنية، والهوية الاجتماعية مدنية وعشائرية والأنظمة السياسية والاقتصادية، والتشكيلات الكيانية التي أفرزتها سايكس ـ بيكو.

دائرة إقليمية: تتنازع فيها مشاريع الدول الاقليمية التي بلوَرت هويتها القومية وعملت على أساسها مثل تركيا وإيران، وتلك التي لم تتبلور هويتها وتسعى الى دور قيادي إقليمي «إسرائيل»، ومصر وادي النيل، والسعودية ممثلة للجزيرة العربية.

دائرة دولية: وقد تدرّج فيها الاشتباك تاريخياً، من صراع بين الإمبراطوريات القديمة، ثم بعد الحرب الأولى بين الدول الاستعمارية الحليفة الذي أنتج سايكس بيكو، مروراً بالحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي السابق، وصولاً إلى اليوم بين الجيوبولتيك الأميركي المدعوم من أوروبا والحلف الأطلسي والجيوبولتيكي الروسي المتجدّد المدعوم من الصين ودول «بريكس».

في الواقع، لا يمكن الفصل بشكل كامل بين الدوائر الثلاث إلا لأسباب منهجية بغية توضيح ما يمكن تسميته بهوامش حرية الحركة المرسومة بدقة من قبل الدائرة الكبرى. حيث برزت إشكالية تقدّم نفسها على الشكل التالي: هل الاستعمار هو من أوجد المتناقضات التي تشتملها الدائرة الأولى؟ أم انّ هذه التناقضات البنيوية هي التي استجلبت الاستعمار الى بقعة صراعاتها؟ بمعنى آخر «ما الذي جلب على امتي هذا الويل؟» كما سأل أنطون سعاده، وأردف بسؤال آخر «من نحن»؟

هنا تتبادر إلى الذهن، التسميات التي أطلقت على هذه المنطقة. من الشرق الأدنى، إلى الشرق الأوسط الجديد، والشرق الأوسط الكبير أو الموسع، التي إنْ دلت على شيء فإنها تدّل على مضمون المشروع الجيوبولتيكي واستهدافاته. هي تسميات جغرافية متعالية تؤكد على مركزية الغرب وتبعيتنا. وبالتالي ترسم حدودنا استناداً إلى خطوط أمنها القومي بالجيوش الجرّارة والأساطيل المنتشرة في البحار المحيطة، والهيمنة السياسية والسيطرة الاقتصادية على برّنا. وعليه استناداً إلى حقائق التاريخ والجغرافيا والفكر العلمي الحديث سنستعيد تعبير «سورية الطبيعية» كاسم لهذه المنطقة، باعتبار هذا الاسم الأكثر التصاقاً بحضارة المنطقة وثقافتها.

تدمير البنى الثقافية الحضارية/الروحية

لا شك، أنّ الاستعمار بكافة أشكاله، قد ركّز في المرحلة الاولى على تدمير البنى الثقافية الحضارية / الروحية باعتبارها جزءاً من العوامل المتغيّرة في تشكيل الأمة، ليتسنّى له في مرحلة لاحقة، النفاذ من التشرذم النفسي والثقافي لتقسيم الجغرافيا بشكل يتناسب مع أهدافه أولاً، وثانياً كي يؤمّن هذا التقسيم بقاء الإقليم الجغرافي بعيداً عن امكانية التفكير باستعادة وحدته.

انّ سايكس بيكو وهي اتفاق توزيع نفوذ بين قوتين استعماريتين، لحظت من خلال ترسيمها لسورية الطبيعية المسائل التالية:

1 ـ فصل مناطق الجذب الحضارية ما بين النهرين، بلاد الشام .

2 ـ إضعاف العمق الاستراتيجي. لبنان بعمق 40 كلم، كذلك فلسطين.

3 ـ سلخ المناطق الساحلية عن الداخل، مثلاً رغم اتساع العراق فهو لا يملك منفذاً بحرياً يتناسب مع مساحته 4 كلم على الخليج، الشام 200 كلم على البحر المتوسط رغم انّ طول الشواطئ السورية على هذا البحر تبلغ أكثر من 800 كلم.

4 ـ التحضير من خلال هذا التقسيم لما أصبح واقعاً في ما بعد، دولة يهودية في فلسطين، سلخ لواء الاسكندرون وكيليكية وصولاً إلى ماردين. وربما دولة كردية في الشمال الشرقي.

5 ـ التقسيم على الأساس الطائفي.

أفقدت هذه الاتفاقية سورية الطبيعية السيطرة المباشرة على شرق البحر الأبيض المتوسط من خليج الاسكندرون حتى قناة السويس، كما أفقدتها القدرة على التحكّم بالممرّات المائية وحركة التجارة والنقل، وأبعدتها عن موقع قبرص الاستراتيجي. وحجّمت بنفس الوقت قدرتها الطبيعية من المشاركة في مياه الخليج والبحر الأحمر.

باختصار وضعت هذه الاتفاقية حداً لمعادلة قوة/ سيادة التي تتمتع بها عادة الأمم في العالم، وهو ما أفقدها مركزها ودورها الجيوسياسي والجيوستراتيجي بعد ان أفقدها دورها الجيوثقافي الحضاري في العالم. ولم تستطع منذ ذاك التاريخ ان تكوّن وضعاً يليق بها في مرحلة تنازع الأمم البقاء، بل جعلها في مهبّ مشاريع الآخرين.

يصعب الآن في ظلّ التشرذم الحاصل على مستوى كيانات الامة في ما بينها وداخل كلّ كيان، وفي ظلّ الحرب الحقيقة الدائرة على أرضها، يصعب وضع تصوّر استراتيجي لدور مستقبلي، دون تحديد نقطة بداية مستقرّة ونقطة نهاية واضحة المعالم، موزعة على مراحل تكتيكية زمنية، والعمل بشكل متوازن بين ما هو استراتيجي وما هو تكتيكي، شرط توفر الإرادة السياسية، والتي يبدو أنها بعيدة المنال حالياً، لارتباط النخب المحلية بمشاريع تكتيكية مفصّلة على قياساتها، وعلى حجم طوائفها و«جماهيرها» واثنياتها وعشائرها وارتباط مشاريعها بالخارج.

ويتعذّر، بنفس الوقت، رسم النقاط المطلوبة للنهوض، دون قراءة فعلية متأنية لاستراتيجيات الآخرين الإقليمية والدولية، ومدى تأثيرها ومكامن الضعف والقوة فيها.

تعتبر الاستراتيجية بشكل عام نسقاً فكرياً مخزوناً في الذاكرة الجمعية لشعب ما، وهي بالتالي جامدة نسبياً لارتباطها بالعوامل الثابتة والثقافية لتشكل الأمة. فالموقع والمساحة والطبوغرافيا، والثروة الطبيعية تماماً كما التطلعات العامة والمصالح هي من يقرّر أصول الاستراتيجية وجذورها التاريخية والحالية. من الطبيعي ان يتغيّر منهج العمل الاستراتيجي تبعاً للإدارة وتبعاً للظروف الذاتية والموضوعية للأمة فتتحقق عندما تكون الأمة قوية عسكرياً، سياسياً، اقتصادياً، ثقافياً وتتراجع الى حدّ تصبح معها الاستراتيجية فكرة معيارية، حين تكون في حالة ضعف أمام الأمم الأخرى او في حال التشرذم استناداً للعوامل الذاتية، فتسلب إرادتها وتفقد سيادتها وتصبح عرضة لتداخل الاستراتيجيات الأخرى. وهذه في الواقع هي حال أمتنا منذ بداية إدراك معنى الأمة وظهور الدولة القومية الحديثة.

هنا تبرز مسألة الإدراك والفهم والتحليل ومن ثم وضع الأولويات والخيارات على مستوى بناء القدرة الذاتية والعوائق الناتجة عن التدخل الخارجي على قاعدة عقلية بحتة. لأنّ العقل هو الشرع الأعلى، وهو بالتالي يحدّد الغايات والأساليب الواجب اتباعها للوصول إلى الأهداف المرسومة، شرط مرحلتها والعمل على إقامة التوازن بين الغايات الاستراتيجية والأهداف المرحلية، دون طغيان أو تعارض بين الغايات والأهداف مصحوبة بتوفر الإرادة السياسية.

تكاد لا توجد طريقة علمية أخرى للخروج من مأزقنا، رغم انّ العوائق الداخلية كثيرة ومتشعّبة ومعقدة لدرجة تدفع البعض الى اليأس. غير انّ وجود مشروع بنائي مستهدف واضح المعالم يبعث على الأمل ويشحذ الهمم، خاصة انّ شعبنا يتمتع بدينامية عالية، وقدرة أقرب ما تكون الى المثالية على العمل والمثابرة لإنجاز ما يمكن تصوّره ووضعه موضع التنفيذ.

المكعّبات البلغارية

انّ العالم لم يعد لعبة شطرنج محصورة بين الأسود والابيض كما كان خلال الحرب الباردة وبين قطبين أساسيين فقط، بل تحوّل إلى لعبة أخرى، بما يمكن تسميته بالمكعّبات البلغارية، ذات الأبعاد والألوان الستة، تلزم لاعبها ان يداخل بين الأبعاد والألوان لتحقيق الانسجام المطلوب والتوازن بين البعد واللون.

يستوجب فهم اللعبة الدائرة في منطقتنا، الإطلال على المشروع الأميركي الغربي بالدرجة الأولى وتحديد ماهية أهدافه، والتحوّلات السياسية والميدانية لمساره كونه المشروع الأساس، والأكثر تجذراً، كي نستطيع من خلال هذا الفهم النفاذ الى إدراك المشاريع الأخرى الموازية أو المعارضة، ليتسنى لنا في ما بعد تحليل نقاط القوة والضعف فيه وفي مشاريع الآخرين، وبالتالي إيجاد المساحة الممكن العمل عليها ومن خلالها لتحقيق مكان لمشروعنا.

الولايات المتحدة التي تبنّت استراتيجية الحفاظ على الدولار، والانصهار المجتمعي الداخلي، وذلك من خلال النهب الخارجي وخلق عدو دائم. اعتمدت نظرية ألفرد ماهان في بداية القرن الماضي، والقاضية بتطويق الدولة البحرية للدولة القارية البرية، ومن ثم العمل على إسقاطها من الداخل، وقد نجحت إلى حدّ بعيد في تعاملها مع الاتحاد السوفياتي السابق من خلال تعاظم قدراتها البحرية وإنشائها للأحلاف العسكرية الناتو، آسيان، والحلف المركزي وإمساكها بالمفاصل الاقتصادية العالمية، وجرّ القطب السوفياتي إلى سباق التسلح. بعد هذا النجاح التاريخي تطلعت إلى تطويق الصين، فمدّدت حلف شمالي الاطلسي الى دول اوروبا الشرقية وعززت وجودها في جنوب شرق آسيا بالقواعد العسكرية، وذهبت إلى تنظيف المسرح العالمي الوسيط الممتدّ من حدود الصين إلى البحر المتوسط.

كانت الأهداف التي تسعى الولايات المتحدة الأميركية لتحقيقها في المسرح الاستراتيجي الوسيط وهو المسرح الذي يشمل منطقتنا، تتلخص بالبنود التالية:

1 ـ الحفاظ على أمن «إسرائيل»، وعلى «إسرائيل» كقاعدة عسكرية متقدمة.

2 ـ أمن الآبار النفطية وأمن تدفقها من خلال السيطرة البحرية وحرية الملاحة التجارية ومسك المنافذ المطلة من وإلى البحر الابيض المتوسط.

3 ـ دعم الأنظمة القائمة التي تتبع سياستها للحفاظ على حالة استقرار امنية وعسكرية تؤمّن موجبات النهب السهل للثروات المحلية.

4 ـ الوصول إلى حلّ نهائي في «الشرق الاوسط» يرسّخ وجود «إسرائيل».

وزادت الولايات المتحدة على الركائز الأربع السابقة بعد 11 أيلول 2001 بنداً خامساً وهو محاربة الإرهاب، تماشياً مع قاعدة استراتيجيتها خلق عدو خارجي .

إلا أنّ الأولويات الأميركية قد تبدّلت منذ عام 2013 فتصدّرتها مسألة محاربة الإرهاب نظراً لبروز ما أسمته بالإسلام الراديكالي على حساب الإسلام المعتدل الذي أصبح يشكل خطراً داهماً على مصالحها في المنطقة وحتى في أوروبا والعالم. وهو ما دفعها بالفعل الى القبول بعقد مؤتمر «جنيف 2»، وتثبيت تحالفها مع دول الإسلام المعتدل، وهو أيضاً ما جعلها في حالة إرباك بعد إزاحة «الإخوان المسلمين» عن الحكم في مصر خلال تحرّك الجيش في 30 يونيو/ حزيران 2013.

أما التحوّل الثاني فيبرز من خلال العمل لعدم انتشار أسلحة الدمار الشامل، وقد ظهر جلياً موقفها في ما يتعلق بالملف النووي الإيراني، وما اتفق مع روسيا حوله لجهة تدمير الترسانة الكيماوية السورية. وهو في الواقع ما اعتبرته إنجازاً لها بإبقاء «إسرائيل» متفوّقة عسكرياً لامتلاكها منفردة السلاح النووي في المنطقة، وبالتالي استقرار المنطقة لضمان تدفق النفط.

رغم ذلك تراجع دور الولايات المتحدة بشكل دراماتيكي في هذه المنطقة لأسباب عدة منها الأزمة الاقتصادية التي طاولتها بدءاً من العام 2008 نتيجة لحروبها الخارجية في أفغانستان والعراق وتكاليف انتشار قواتها على امتداد العالم. وربما لسبب جوهري آخر وهو بروز منافسين جديّين على الساحة العالمية كروسيا والصين والهند وبقية دول «بريكس». وقد يكون من الأسباب أيضاً، تراجع أهمية هذه المنطقة استراتيجياً لاكتشاف مصادر طاقة ذات أهمية أكبر، وأسواق تجارة عالمية أوسع في آسيا والمحيط الهادئ.

أما القطب الثاني الذي ينافس الولايات المتحدة الاميركية في المنطقة فهو بالتأكيد روسيا الاتحادية، التي استعادت حركتها الاستراتيجية بعد وصول فلاديميير بوتين إلى الحكم مجدّداً. والاستراتيجيا الروسية هي استراتيجيا ثابتة كما قلنا سابقاً. وتتلخص بالوصول الى المياه الدافئة. وهي استراتيجيا لم تتغيّر من عهد القياصرة كاترين الثانية، بطرس الاكبر مروراً بالاتحاد السوفياتي وصولاً الى الوقت الحاضر مع الاتحاد الروسي. أما أهمّ الملامح التي تعمل على أساسها روسيا الآن لخدمة استراتيجيتها فتتلخص بالنقاط الآتية:

1 ـ محاربة القوى التكفيرية لإبعاد شبحها عن الأراضي الروسية وخاصة في الشيشان، التي عانت طويلاً من العمليات الإرهابية.

2 ـ الاحتفاظ بسورية كحليف استراتيجي مطلّ على البحر الأبيض المتوسط، وخاصة قاعدة طرطوس التي تشكل عصب الأسطول الروسي على هذا البحر بعد فقدان روسيا قواعدها في ليبيا ومصر والجزائر. وهو ما يفسّر وقوفها بقوة مع سورية على المستويات العسكرية والسياسية والديبلوماسية، خاصة في مجلس الأمن الدولي.

3 ـ التواجد وبشكل قوي خلف الدرع الصاروخي الأميركي الممتدّ من بولندا الى تركيا مروراً ببلغاريا.

4 ـ تأمين تدفق الغاز عبر السيل الجنوبي لشركة غازبروم الى أوروبا، تماماً كالسيل الشمالي الذي يمرّ في أوكرانيا.

روسيا… لاستعادة النفوذ السوفياتي

تسعى روسيا الآن الى استعادة دور ونفوذ الاتحاد السوفياتي السابق مع تجنّب الوصول الى سباق تسلح مع الولايات المتحدة بغية الحفاظ على النمو المضطرد لاقتصادها. غير انّ الولايات المتحدة وبتمويل صهيوني استخدمت قوتين محليتين لزعزعة الوضع الروسي: الأصولية الإسلامية المتشدّدة، والحركات النازية المتشدّدة في أوروبا الشرقية وفي الجمهوريات السوفياتية السابقة.

أما الاستراتيجيات الإقليمية ورغم أهمّيتها لا تستطيع العزف منفردة خارج دائرة الاشتباك الدولي. قد تستفيد كلّ منها من التقاطعات المرحلية بين ما هو إقليمي وما هو دولي، إلا أنّ حركتها مهما توسعت تصبّ اساساً في خانة الأقطاب الدولية.

من المهم جداً تحليل مقوّمات العمل الإقليمي وخاصة «الإسرائيلي» والتركي والإيراني والعربي في ما يتعلق بمصر والسعودية وتأثيراتهم على سورية الطبيعية، كما من المهمّ قراءة الاستراتيجيات الصينية وتطلعات الدول الكبرى الأخرى. غير أنها واقعياً وعملياً ليست خارج أداء كلّ من الولايات المتحدة وروسيا في الوقت الراهن.

إنّ الإطلالة السريعة على المشاريع الجيوبوليتيكية المستهدفة منطقتنا ودينامياتها، لا تعفينا من الدراسات المتأنّية لكلّ منها. لكن الأولوية تبقى في وضع الحجر الأساس للخروج من مأزقنا وتبني رؤية واضحة للنهوض على قاعدة الأسئلة التالية: من نحن؟ أين نحن؟ إلى أين؟ وما هي سبل الوصول؟

محاضرة ألقاها عضو المجلس الأعلى في الحزب السوري القومي الاجتماعي وليد زيتوني في الاحتفال الذي أقامته مديرية المريجة التابعة لمنفذية المتن الجنوبي بمناسبة عيد مولد باعث النهضة أنطون سعاده

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى