مختصر مفيد حرب «النصرة» في حلب… فماذا ستفعل واشنطن؟

يبدو واضحاً أن واشنطن تسير بين النقاط وعلى حدّ السيف في موقف لا تحسد عليه، بين السعي لعدم التفريط بالتفاهمات التي أنجزتها مع روسيا وإيران وخلقت مناخات من التراكم في الانفراجات الدولية والإقليمية، والتي تعيش أصعب اختباراتها في سورية اليوم، أمام الاستحقاقات الداهمة للحرب في شمال سورية، ومن جهة أخرى، تسعى واشنطن بثقلها لعدم الإنفكاك عن حليفيها الأقرب والأهم في الشرق الأوسط تركيا والسعودية، واللذين بدونهما ستصير تسوياتها مع روسيا وإيران انهزاماً كاملاً وتسليماً للمنطقة لخصومها. فالحرب في حلب تفرض على واشنطن أن تختار بين منطقين متقابلين يصعب التوفيق بينهما. منطق تواجهها به روسيا ويقول إن انسحاب «جماعة الرياض» من محادثات جنيف خروج عن مسار الحلّ السياسي لو قام به الوفد الحكومي السوري لقامت الدنيا وما قعدت، وتم لحساب المراوغة التفاوضية لعدم التسليم بحقيقة حتمية السير بحكومة موحدة، هي الطريق لتحقيق ما يطالبون به من دستور جديد وانتخابات رئاسية وبرلمانية، وأن إقدام فصائل منضوية في «جماعة الرياض» مثل «جيش الإسلام» و«أحرار الشام» على تفجير الهدنة تحت شعار سقوطها في حلب، هو إعلان تموضع مع «جبهة النصرة» المتفق علناً وقانوناً وفقاً للقرارات الأممية على كونها مستثناة من أحكام الهدنة. ووفقاً للمنطق الروسي المطلوب من واشنطن موقف حاسم يعبّر عن الوفاء بالتعهدات التي تمليها التفاهمات بالضغط لجلب حلفائها إلى الموقف المتفق عليه تجاه حنيف أو الهدنة، أو على الأقل التأكيد المعلن على أن الخروج من جنيف يفتح باب وفود بديلة، وأن الخروج من الهدنة يضع الواقفين مع «النصرة» في صفها، وعندئذٍ روسيا تتكفل بالباقي.

بالمقابل، تواجة واشنطن حليفيها التركي والسعودي وهما يرميان بثقلهما لتغطية وقف محادثات جنيف للضغط من أجل خوض حرب حلب التي تخوضها «جبهة النصرة»، والسعي لفرضها شريكاً في أحكام الهدنة، وإعادة ربط التفاوض بمصير الرئاسة السورية وفقاً لنتائج الحرب. ووفقاً لمنطق أنقرة والرياض، «النصرة» هي القوة المحورية التي يمكن ببقائها مواصلة التفاوض، وإلا فقد كل حلفاء واشنطن أي أوراق قوة في سورية، فلا يكون لا لتركيا ولا للسعودية ولا لـ«جماعة الرياض» ما يقام له حساب، وأن المطلوب من واشنطن الضغط على موسكو لتعميم الهدنة على كل سورية تحت العنوان الإنساني بعيداً عن تصنيفات الإرهاب، ومن يخرقها يتم وضعه خارجها، وبالتالي فتح الباب لضمّ «النصرة» إلى أحكامها، وفي جنيف تكريس حصرية «جماعة الرياض» رسمياً والانتقال للتفاوض المباشر مع وفدها المفاوض بعضوية «جيش الإسلام» و«أحرار الشام»، وتغطية الإصرار على جعل مستقبل الرئاسة السورية محور التفاوض. وببساطة، يقول السعوديون والأتراك هذه آخر حروبنا في سورية، ولن نتخلى عن خوضها، فقفوا معنا ونتكفل بالباقي.

بعد جولات الضغط والتفاوض خلال الأيام التي مضت، توصلت واشنطن إلى اليقين باستحالة التوفيق، واستحالة تراجع أحد المنطقين، وأن الاختيار هو الأصعب عليها، فهي لا تريد انقلاباً على التفاهمات يعيدها إلى خارطة المواجهات التي خرجت منها بقرار كبير ترجمته تفاهمات الملف النووي من جهة، وأوكرانيا من جهة أخرى، والتقدم المحقق مع روسيا في الملف السوري منذ التموضع العسكري الروسي هناك قبل شهور. وبالمقابل، لا تريد واشنطن أن تتحول إلى مجرّد غطاء للحرب التي ستخوضها سورية بدعم روسيّ إيرانيّ ضد حلفائها فينهزمون، وهي تبقى بلا قوى إقليمية تشارك عبرها في توازنات تضمن التسويات. لذلك كان القبول الأميركي بنظام التهدئة الموازي للهدنة المترنحة والمجمدة. ولهذا ستسعى لتمديدة مرة واثنتين وثلاثاً، ومنطقها يشبه منطقها يوم جلبت الأساطيل إلى المتوسط قبل ثلاث سنوات تحت شعار ضرب سورية وبقيت تنتظر، لا هي تجرؤ أن تقدم على الحرب ولا هي تقدم على الانسحاب. وما تنتظره واشنطن هذه المرة اتفاق يشبه الحلّ السياسي للسلاح الكيماوي السوري، وهي تعلم استحالة أن تتوقع قبول البحث بمستقبل الرئاسة السورية، ولا قبول البحث بتبييض «النصرة»، فكل منهما يعني تحقيق أهداف الحرب قبل وقوعها.

ستبقى واشنطن تنتظر حتى تبدأ بتلقي العروض، من نوع مقايضة «النصرة» بتثبيت حصرية «جماعة الرياض» التفاوضية، ومن نوع إخراج الاتحاد الديمقراطي الكردستاني من المشهد التفاوضي، ومن نوع الضمانات بعدم منح الأكراد خصوصية في شمال سورية تجعلهم شوكة في خاصرة تركيا. وبالمقابل مع كل انهيار لنظام التهدئة وتجديد له، ستنتظر واشنطن عرضاً تركياً وعرضاً سعودياً يفرضهما الميدان وتطوّراته.

الميدان هو الذي سيحسم. وانتظار واشنطن لتحسم أمرها قبله يمنح جماعتها زمام المبادرة، وهذا ما تدركه موسكو ودمشق ولذلك التهدئة محكومة بوقت ضيق، وتجديدها كل مرة سيزداد صعوبة، فالاستنزاف أبشع أنواع الحروب لا تهدئة ولا هدنة ولا تضحيات تحسب في طريق الخلاص، وفي الميدان سيكون على تركيا والسعودية و«جماعة الرياض» المفاوضة، تلقي نتائج حرب «النصرة» وتحمل تبعاتها، والتفاوض بعد تغييرات الميدان وتضحياته يتم بسقوف مختلفة.

تعلم واشنطن أن هذه هي تجربتها بين كلّ جولتَي تفاوض حول الملف النووي الإيراني، حيث يكون جديد تقني قد تقدم في ما تمتلكه إيران وعلى المفاوض الأميركي كي يمنع الأسوأ أن يرضى بما كان مرفوضاً في الجولة التي سبقت. وكل مرة كانت تحجم واشنطن عن الاتفاق كانت تمنح طهران فرصة المجيء إلى جولة قادمة بوضع أفضل. وواشنطن تعلم أن الحرب تشبه الشطرنج إلا أنه لا يمكن في بداية كل جولة رصف الحجارة كما كانت في البداية، بل المتابعة من حيث انتهاء الجولة السابقة..

ناصر قنديل

ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى