فيلم لبناني طويل!

خليل إسماعيل رمال

العيش في لبنان بالنسبة إلى المغترب الذي أمضى سنوات عمره في الخارج، شبه مستحيل. البعض منّا قد يتأقلم بصعوبة شديدة وقد يتحمّل إلى حدّ معين، لكنّه قد لا يستمرّ في المكابرة طويلاً، خصوصاً أنّ لديه بديلاً جاهزاً وهو الهجرة مجدداً لأنه يحمل جنسية بلد الاغتراب فيعود إلى بلده الأجنبي غير سالم ولا معافى من التجربة الرهيبة، بعكس المواطنين المقيمين الذين هم مضطرون أن يتحمّلوا شظف العيش في بلد واقع في الهاوية!

وأنت في زيارة لمناسبة حزينة في لبنان لا تملك إلا أن تزداد هماً وكرباً على هذا الوطن الجميل. الإنجاز المعتبَر في نظرة هذا الكاتب أنه لم يعُد يعتبر لبنان مسخ وطن بل بلد سياسيين وحوش ممسوخين وشعب «تَمْسَح» جلده لدرجة أنه «رفع العشرين» ولم يعُد يؤثر فيه شيء ولم يعد يتفاجأ بشيء مما فتح ويفتح المجال أمام الطبقة السياسية الحاكمة لتفعل ما تشاء من دون حسيب ولا رقيب. لبنان ليس وطناً واحداً بل أوطان عدة مقسَّمة ولو من دون إعلان رسمي. المناطق الجغرافية وأحزمة البؤس حتى الناس في المناطق المأهولة تختلف جذرياً في ما بينها فهناك الضاحية وشارع الحمراء وفردان والداون تاون سوليدير والروشة وبعض مناطق الجبل وشرق بيروت والجنوب، كلها عوالم مختلفة تماماً! حتى المقاهي ترتادها مجموعات عقائدية وحزبية معينة. لا تصدّق أنك تعيش في بلد واحد أو يوجد فيه شعب واحد. هنا عائلات تعيش تحت خط الفقر وعائلات «فوق الريح». متخرّجو الجامعات يفيضون عن حاجة سوق العمل، والوظائف طبعاً لا تتمّ من دون واسطة من زعيم أو من ينتدبه. روت لي إحداهن أنها أرادت أن تتوظف في مرفق عام فطلب منها متنفذ ٥ آلاف دولار لتتسلّم وظيفتها في اليوم التالي، لكن العجيبة أنه لا توجد وظائف شاغرة! هناك طالبات إعلام لا يجدن مواقع لهن في التلفزيونات المحدودة، لأنها توظف على أساس طائفي ومذهبي فقط!

حدّثتني مختصة اجتماعية أنّ معظم العائلات التي يعمل أفرادها بأجور أقلّ من الحدّ الأدنى، عكس رواتب ومخصصات النواب العاطلين عن العمل، تقبض راتبها الذي ينفد في الخامس من الشهر فتستدين لكي تصمد بقية الأيام حتى يأتي موعد القبض المقبل فتسدّ بعض الديون وتدفع مصاريف الماء والكهرباء وغير ذلك فينفد الراتب الزهيد في اليوم الخامس ثم تتكرّر التجربة كلّ شهر وهكذا دواليك… يا ما في لبنان مظاليم، ذلك أنّ معظم العوائل المستورة تمضي ليلتها في منتصف الشهر ولا يوجد عندها ليرة واحدة فينام ربّ الأسرة مع عائلته جائعاً متأمّلاً حدوث معجزة في صباح اليوم التالي، أيّ يعيش الناس بالقلة وكلّ يوم بيومه.

لولا الاغتراب، لا الدولة، لاختنق لبنان أو أصابته المجاعة ولنهش الناس لحوم بعضهم. لكن المحير أنّ الكلّ عندهم «سيلوليرات» وخادمات حتى في القرى النائية والمقاهي في الحمراء وبيروت تمتلئ يومياً بالمرتادين الذين يدفعون أضعاف ما يدفعه الأميركيون والأوروبيون في أغلى دولة في العالم. فالأسعار هنا ليست كالبورصة: هنا ترتفع ثم… تزداد ارتفاعاً، فلا رقابة ولا حماية للمستهلك رغم الجمعية السيئة الذكر.

وعندما تتجرأ وتفتح أمام المواطنين موضوع أنك تفكر بالعودة نهائياً إلى لبنان، يقابلك زعيقهم المستنكر لهذه الرزيّة ويتبرّعون بتعداد الأسباب المقنعة لك بالإقلاع عن هذه الخطيئة وأنت مقتنع أصلاً! لن تتمكّن من العيش هنا بعد التغرّب، حتى ولو حصلت المعجزة فيجب أن تكون من أصحاب الملايين، يقولون لك. وفي هذا هم محقون فبلد سايب كهذا الفلوس لا قيمة لها وتذوب مثل الثلج في شهر آب.

حتى الأخبار التي يتابعها المغتربون بشغف في بلاد الغربة، لا يلتفت إليها أحد هنا. بالكاد يشتري أحدهم جريدة أو يستمع إلى نشرات الأخبار. حتى الأخبار المتعلّقة بمصيرهم مثل استفحال واستئساد المصارف اللبنانية وتطبيقها للعقوبات الأميركية على طريقة أنّ المصارف أكثر ملكية من الملك وإجراءاتها قد تطال شريحة واسعة من اللبنانيين، لا تهمّ أحداً. كتلة سياسية كبيرة تعتبر أنّ المؤامرة هي على المصارف لا على المقاومة وعلى جزء كبير من المدّخرين اللبنانيين أصحاب الودائع الصغيرة!

تمر أمام مكتب «أوجيرو» فيقولون لك «هذه مغارة عبد المنعم يوسف، مغارة السرقات الكبرى في البلد»، لكن لا يفعلون شيئاً وكأنّ هذا تحصيل حاصل. تستقلّ سيارة أجرة يتصاعد فجأةً من الراديو النشيد الوطني اللبناني فيستغرب السائق والركاب ويتساءلون عن السبب ثم يستعرضون خبراً عن النواب يفيد أن معظمهم لا يعرفون النشيد الوطني اللبناني، لكن هؤلاء المستغربين يهرعون كالغزلان لانتخاب المخاتير ورؤساء وأعضاء البلديات من دون أن ينتبهوا أنّ النواب المتحالفين مع هولاء المرشحين البلديّين قد «بلفوهم» بالتمديد النيابي غير الشرعي وغير القانوني الذي دحضته الانتخابات البلدية! الانتخابات لم تكتمل بعد، لكن تبيّن حتى الآن أنّ منطق العائلات تفوّق على الأحزاب والعقائد وعلى الكفاءات والدم الجديد الذي قد يبني بلداً، أما الحضور النسائي في البلديات، ترشيحاً، فكان خجولاً جدّاً وموضع تندُّر في بعض الأحيان في بلدٍ يعتدّ بديمقراطيته.

يبدو أنّ ليل المحنة في لبنان طويلٌ ودامس!

كاتب وإعلامي عربي أميركي

يسكن في ولاية ميشيغن في الولايات المتحدة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى