الدولة الأمنية ونهاية الديمقراطية في الغرب

زياد حافظ

صعود القوى اليمينية والمحافظة في العديد من دول الغرب له دلالات عدة ونتائج في منتهى الخطورة والتي تنذر بصدامات داخلية وخارجية. ومن أسباب هذا الصعود التحوّلات في البنى السكّانية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لا يتوقف عندها المراقبون بشكل عام وخاصة في الوطن العربي. فما زالت النخب العربية تنظر إلى القيادات الغربية على قاعدة التعامل مع شيخ القبيلة دون الالتفات إلى مكوّنات البلد. فالتحوّلات التي نتكلّم عنها هي التي تفرز التيّارات والقيادات القائمة في الغرب.

في التحوّلات السياسية نجد أنّ الأفق السياسي في الغرب بات مسدوداً، وذلك بسبب عدم مواكبة القيادات السياسية، يمينية أو يسارية، التحوّلات في مجتمعاتهم. فمن أهمّ التحوّلات هو شيوخ الشعوب في الدول الغربية التي لا تستطيع أن تحافظ على معدّل نموّ طبيعي لسكّانها إلاّ عبر الهجرة الوافدة إليها. في زمن البحبوحة الاقتصادية تمّ التنظير لاستقبال تلك الهجرة التي تأتي بيد عاملة رخيصة. لكن في وقت الضيق الاقتصادي، أيّ في الحالة السائدة الآن في تلك الدول، أدّت الهجرة الوافدة إلى تصاعد في التوترات والاحتكاكات على قاعدة عصبيات محلّية وعنصرية صريحة وتمييز طائفي وعرقي ظنّ البعض أنّ النظم الديمقراطية السائدة أدّت إلى إزالتها بشكل نهائي.

محاكاة الغرائز لا العقول

قراءة سريعة للخطاب السياسي في الولايات المتحدة أو في أوروبا يبيّن أنّ النخب الحاكمة أو الطامحة للحكم تحاكي الغرائز بدلاً من العقول لأنّ الأفق السياسي بات مسدوداً والبحبوحة الاقتصادية قد تبخّرت إلى لا عودة على ما يبدو، وذلك لأسباب موضوعية عرضناها سابقاً. فالركود الاقتصادي في الولايات المتحدة يدخل في العام العاشر بعد أزمة 2007 – 2008 المالية إثر الفقّاعة العقارية. تداعيات الأزمة الاقتصادية امتدّت إلى أوروبا واليابان. ونتيجة للركود الاقتصادي تفاقم معدّل البطالة رغم محاولات التضليل عبر التلاعب بالإحصائيات التي تركز على خلق فرص عمل جديدة دون تحديد حجم البطالة. ففي الولايات المتحدة تفيد إحصاءات الدولة إلى فرص العمل الجديدة دون تحديد حجمها والدخل الناتج عنها، ربما لأنها ما زالت متواضعة جداً، وهذا ما ينعكس في معدّلات نموّ متواضعة هذا إذا كانت دقيقة في الناتج الداخلي. فالبطالة المتفاقمة تعود إلى ضعف في الاستثمار والضعف في الاستثمار يعود إلى تراجع التوظيفات في القطاعات الإنتاجية واستبدال النشاطات الافتراضية في الأسواق المالية والعقارات مكانها. ففي الولايات المتحدة ما زالت السياسة الاقتصادية القائمة على توطين خارج الولايات المتحدة للقاعدة الصناعية والارتكاز إلى قطاع الخدمات بشكل عام والخدمات المالية بشكل خاص. كلّ ذلك مع تراجع في القوة الشرائية للأجور والرواتب وذلك منذ أكثر من خمسة عقود! فالتراجع الاقتصادي واكبه وما زال تراجع في حالة المجتمع شرحنا أيضاً في السابق.

أما لماذا الأزمة فهذا يعود إلى طبيعة النظام الرأسمالي الذي أصبح يتحرّك دون أيّ قيود، وذلك بعد سقوط الاتحاد السوفيتي الذي جعل النخب الحاكمة في الغرب، وخاصة في الولايات المتحدة، تلغي القيود الناظمة بحجة التنافس في إطار العولمة، ولكن بالفعل لضرب مكافأة اليد العاملة لصالح الرأس المال. كما أنّ التحوّلات داخل النظام الرأسمالي أدّت إلى ابتكار وسائل إنتاج الثروة دون التقيّد بالمشهد الاقتصادي العيني وتطوّراته وفقاً للدورة الاقتصادية. فالاقتصاد الافتراضي أصبح سيّد الموقف عبر سيطرة الأسواق المالية على مجريات الأمور، بل أصبح السوق المالي يختزل في طيّاته الاقتصاد الفعلي. والرأس المال المنتج ذهب من القطاعات الإنتاجية ليتمركز في القطاع المالي الافتراضي عبر المضاربات المالية وإصدار السندات المالية والمضاربات العقارية التي لا تمثّل يقين النشاط الاقتصادي.

التحوّلات في النظام الرأس المالي أفرزت طبقات اجتماعية مستفيدة منها كطبقة رجال المال ومن يعمل معهم. وبسبب السيولة الضخمة التي تمتلكها تلك الطبقات استطاعت أن توجّه التشريعات المالية والسياسية في آن واحد دون الاكتراث إلى النتائج الاقتصادية والاجتماعية التي تسبّبها. فتمركز الثروة بيد القلّة وتمركز السلطة بيد قلّة مطيعة لمالكي الثروة جعل التفاوت الاقتصادي في الثروة وفي الدخل يصل إلى مستويات قياسية دقّت ناقوس الخطر عند بعض العقلاء في المحافل الغربية. فالاقتصادي الفرنسي توماس بيكتي، ومعه الاقتصادي الأميركي بول كروغمن، وقبلهما جوزيف ستيغليتز، والاقتصادي المرموق مايكل هدسون الذي نعتبره من أهمّ الاقتصاديين في الألفية الثالثة، حاولوا لفت أنظار النخب الحاكمة إلى المخاطر كالتفكّك الاجتماعي والاضطرابات الاجتماعية. فالمطلوب مراجعة شاملة لطبيعة النظام الاقتصادي وإجراء التعديلات الهيكلية لتصحيح مسار الأمور والتخفيف من حدّة التفاوت بين القّلة المسيطرة، أيّ مجموعة الواحد بالمائة، والمكوّنات الأخرى للمجتمع.

في الثلاثينات من القرن الماضي قام الاقتصادي جون مينارد كينز بعرض نظرية الإنفاق العام لتحريك عجلة الاقتصاد لمحاربة الكساد الكبير الذي أدّى إلى مستويات قياسية في البطالة في الولايات المتحدة والغرب، فكانت من أسباب الحرب العالمية الثانية. محاولات بيكتي وكروغمن وستيغليتز وهدسون بدأت تدخل في الخطاب السياسي، خاصة عند بعض المرشحين للرئاسة في الولايات المتحدة كـ بيرني ساندرز إلاّ أنّ ترجمتها الفعلية في السياسات الإصلاحية ما زالت تتطلّب المزيد من الوقت. فتقديرنا لقوة المجتمع المالي العميق، وهذا واقع علينا أن نتعامل معه كحقيقة موضوعية ضاغطة، يجعلنا نتحفّظ حول إحداث التغييرات المطلوبة في المدى المنظور مما يسهم في تفاقم الأمور التي قد تؤدّي إلى انشطار الولايات المتحدة خلال فترة عقد أو عقدين من الزمن. أما بالنسبة لأوروبا فمستقبل الاتحاد الأوروبي قاب قوسين إذا ما خرجت المملكة المتحدة منه.

المأزق الاقتصادي والاجتماعي السائد في الغرب، في الولايات المتحدة وفي أوروبا، يرافقه انسداد في النظام السياسي، بل ربما يكون نتيجة للانسداد الأفق السياسي. نلاحظ تردّي نوعية النخب الحاكمة منذ نهاية الستينات التي شهدت عمالقة في السياسة في أوروبا كديغول واديناور وكندي وجونسون. بينما خلال العقود الثلاثة الماضية وجدنا تراجع المستوى العقلي والمعرفي والأخلاقي لقيادات الدول الغربية التي ترزح تحت وطأة الفضائح المالية والأخلاقية أو الجهل. القيادات التي تصل إلى سدّة الحكم في الغرب مدينة لمموّليها فتصبح أولوياتها الحفاظ على الدعم المالي للحفاظ على السلطة. ويمكن القول إنّ السياسة بالمفهوم العام والفكري أصبحت معدومة. فالدول التي يحكمها نظام الحزبين أصبحت خاضعة لقواعد اللعبة الصفرية بين الأحزاب حيث «ربح» أيّ حزب يعتبر «خسارة» للجهة المنافسة بغضّ النظر عن المصلحة الوطنية العليا. الباحثان الأميركيان المرموقان نورمان اورنشتين وتوماس مان الأول من الحزب الجمهوري والباحث في المعهد المحافظ أميركان انتربرايز ومعقل المحافظين الجدد، والثاني من الحزب الديمقراطي وباحث في معهد بروكنز المشهور أصدرا كتاباً هاماً عام 2012 عنوانه «الحالة أسوأ مما ترونه» حيث شرحا حالة الترهّل السياسي القائم في الولايات المتحدة وانسداد العمل السياسي في الكونغرس الأميركي وفي البيت الأبيض. أما حالة الترهّل الاقتصادي فقد أشارت إليها رئيسة شبكة «الهفنغتون بوست»، اريانا هفنغتون في كتاب صدر عام 2010 تشرح فيه تناثر الطبقة الوسطى وترهّل البنى التحتية من طرق وجسور ومستشفيات ومرافق عامة ومدارس. عنوان كتابها مثير «أميركا عالم ثالث»!

عدم اكتراث النخب الحاكمة لضرورة إجراء تغيّرات جوهرية في النظام السياسي والاقتصادي تعود إلى ثقتها بالنظم الأمنية التي فرضتها وما زالت تبتكر وسائل جديدة لتثبيت قبضتها على المجتمع. فأحداث أيلول 2001 شكّلت تحوّلاً مفصلياً في ذهنية الجمهور الأميركي ومعه إلى حدّ كبير جماهير الدول الغربية التي أصبحت تعيش هاجس الهجوم الإرهابي سواء قام به متشدّدون مسلمون أو غيرهم. موقع «انفورماشن كليرينغ هوس» نشر مقالاً مفاده أنّ أميركا دولة تعيش في الذعر وأنّ الأخير هو ما يتحكّم بسلوك الأميركيين. من إفرازات أحداث أيلول صدور قانون الباتريوت الذي يقوّض حرّيات المواطن الأميركي بشكل ملموس بحجة مكافحة الإرهاب ومن تعتبرهم السلطات الأمنية تهديداً لأمن الولايات المتحدة. نلاحظ هنا أنّ المرجع لتحديد هوية الخطر هي السلطات الأمنية.

ذلك القانون ومعه ثلّة من قوانين مشابهة تشمل أيضاً الحركات والتحويلات المالية بحجة مكافحة الإرهاب جعلت «صناعة الأمن» من أهمّ القطاعات الاقتصادية وأكثرها نمواً. فإذا حذّر الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور من مخاطر المجمع العسكري الصناعي الأميركي فلكان حذّر اليوم من المجمع الأمني الصناعي الأميركي ومعه المجمّع المالي. صناعة الخدمات الأمنية تجني كلّ عام ما يقارب 90 مليار دولار في العالم حسب إحصاءات بعض المواقع الالكترونية التي تتابع ذلك القطاع. حصة الولايات المتحدة تقارب 25 مليار دولار سنوياً. قطاع الخدمات الأمنية تسيطر عليه خمس شركات عملاقة منها اثنتان غير أميركية. سيطرة هذه الشركات الخمسة تشمل حوالي خمسين بالمائة من النشاطات في القطاع. عدد العاملين في الخدمات الأمنية في الولايات المتحدة يتراوح بين 1.5 و2 مليون عامل. أجمالي عدد الشركات هو 8000 آخذين بعين الاعتبار التمركز بين خمس شركات.

ليس هدفنا اليوم القطاع الأمني بحدّ ذاته بل الإشارة إلى إرهاصات نمو ذلك القطاع وربطه بثقافة المراقبة والتنصّت التي تلغي إلى حدّ كبير الحرّيات الخاصة التي يصونها الدستور، على الأقلّ بشكل نظري. في هذا السياق لا بدّ من الإشارة إلى كتاب هام صدر في الولايات المتحدة عام 2014 لتوماس انجلهاردت صاحب موقع «توم ديسباتش». عنوان كتابه «حكومة الظلّ» ويقصد بذلك مجمل المؤسسات الأمنية التي تتحكّم بالمواطن الأميركي. فهو من أهمّ المعلّقين الأميركيين وموقعه يتابعه الملايين من الأميركيين وغير الأميركيين. كما هو مؤسّس «معهد الأمة» وهي مؤسسة معنية بالحفاظ على استقلالية الإعلام ومناهضة لتمركز الإعلام بيد الشركات الكبرى. ففي الولايات المتحدة هناك ست شركات تملك أكثر من 90 بالمائة من وسائل الإعلام كالصحف والمجلاّت ومحطات الراديو والتلفزيون وحتى شركات إنتاج أفلام السينما في هوليوود. هذه الشركات هي: جنرال الكتريك، نيوزكورب، ديزني، فياكوم، تايم وارنر، وسي بي اس. فالمواطن الأميركي لا خيار له إلاّ اللجوء إلى محطات أو صحف هذه الشركات لتكوين الرأي.

تمركز الإعلام عامل مهمّ في بنية النظام السياسي والاقتصادي المالي والأمني. وتعتبر النخب المالكة أنه بإمكانها السيطرة وتكوين الرأي العام كما تشاء. لكن ما حصل من ثورة تكنولوجية في وسائل التواصل جعلت سيطرة هذه الشركات منقوصة وخاصة مع انتشار الشبكة العنكبوتية. فتلازم تلك الشبكة مع وسائل تواصل رخيصة وخفيفة الحمل وسهلة الاستعمال جعلت السيطرة على المعلومات من المستحيل. من هنا نشأت ضرورة مراقبة التواصل سواء في الشبكة العنكبوتية أو وسائل التواصل. ففضائح التنصّت التي فجرّها ادوارد سنودن كشفت مدى تنامي الدولة الأمنية التي وصفها بدولة أو حكومة الظلّ.

كتاب آخر يشرح العلاقة العضوية بين النهج النيوليبرالي في الغرب بشكل عام وفي الولايات المتحدة بشكل خاص صدر عام 2013 «المجمع الصناعي الأمني: الاقتصاد السياسي للمراقبة»، الكتاب مؤلف من مجموعة أبحاث أعدّها أخصّائيون. النقطة الرئيسية هي أنّ «الحرب على الإرهاب» هي الشعار الذي جعل الشركات الكبرى والحكومات في الدول «الشمال» أيّ أوروبا، اليابان، كندا، والولايات المتحدة تأخذ الإجراءات للمزيد من السيطرة على المجتمع وللأرباح. فكانت الشراكة بين القطاع الخاص والحكومات لإنشاء مؤسسات تقوم بنشاطات التنصّت والمراقبة. كما أنّ التشريعات التي تقيّد الحرّيات العامة تلازمت مع تلك التي تسيطر على نقل التكنولوجيات للدول النامية وربما تحت شعار «الحفاظ على الملكية» كشرط لدخول الدول في منظمة التجارة الدولية بحجّة مكافحة الإرهاب ولكن في الحقيقة لمراقبة نمو اقتصادات الدول التي يمكن أن تنافس دول «الشمال». وهذا «الاقتصاد السياسي» للمراقبة والتنصّت يؤثر في العلاقات الاجتماعية ويجعل مجموعات «مشبوهة» عرضة للمراقبة الجماعية. من هنا نفهم خطاب المرشح الجمهوري دونالد ترامب، والذي يوافق عليه العديد من النخب داخل الحزب الجمهوري وحتى الديمقراطي، الذي يطالب بمراقبة المسلمين المقيمين في الولايات المتحدة.

ما نشهده اليوم في العديد من المدن الأوروبية والأميركية هو تنامي قوى اليمين العنصري يواكبه تنامي القوى الأمنية الرسمية التي تمارس أيضاً التمييز العنصري، وتنامي المربّعات الأمنية للأثرياء في المدن الكبرى وضواحيها، مع خطاب سياسي عنصري يغذّي الغرائز والعصبيات لأنها تلهي الجمهور عن مقاربة صحيحة للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. في آخر المطاف، إنّ الخاسر الأكبر، وربما المستهدف الأول، هو الديمقراطية في الحدّ الأقصى أو تفريغها من مضمونها الفعلي في المشاركة والمساءلة والمحاسبة مع المحافظة على شكليات ومؤسسات تحمي الوضع القائم ولا تقوم بأيّ تغيير. فمستقبل هذه المجتمعات قاتم إنْ لم يحصل أيّ تغيير جذري وهذا ما لا نراه في الأفق رغم بعض الظواهر التي تشكّله إمكانية الوازنة ولكن غير حاسمة فوز المرشح للرئاسة الأميركية بيرني ساندرز أو الطامح لرئاسة الحكومة البريطانية جريمي كوربين.

أما في لبنان فإنّ عملية التغيير ما زالت متعثّرة وإنْ كانت إرهاصاتها تتراكم بداية من معارضة للطائفية إلى التنسيق النقابي إلى حملة الاحتجاج على النفايات الفعلية والسياسية! إلى حالة التململ من الطبقة السياسية الحاكمة في الانتخابات البلدية. فكلّ ذلك ينذر بتغيير في المشهد السياسي وذلك لتعزيز عملية المشاركة والمساءلة والمحاسبة. فهل سيستمرّ ذلك الحراك؟ هذا ما نأمله والله اعلم.

أمين عام المؤتمر القومي العربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى