في ذكرى التحرير… ترتفع شعلة الإنماء جنوباً

د. سلوى الخليل الأمين

هي ذكرى التحرير، تحرير الجنوب من رجس بني صهيون، الذين ما زالوا يعيثون شراً وإجراماً على مساحة الوطن العربي، هذا التحرير المغمّس بدم الشهداء الأبطال، الذين لا تزال ذكرى بطولاتهم مغروسة في عقول وضمائر أبناء الجنوب بكلّ أطيافهم وفئاتهم وبلداتهم وقناعاتهم السياسية، حيث مقاومة العدو الصهيوني قدر مكتوب على صحائف المجد الذي ترفع مداميكه المقاومة عبر تقديم خيرة شبابها فداء لفلسطين العربية، وفي سبيل عزة لبنان، بل عزة الأمة العربية جمعاء.

لهذا تبقى ذكرى التحرير نقش تاريخ ما زال يرصف بحدّ السيوف المسنونة على الدوام، وحالة مقاومة ضدّ «إسرائيل»، هي الفرض الواجب الوجوب الذي يرفعه كلّ عربي حرّ وأبي، أديم مسارات مغزولة من نسيج الفكر، سفر أرياح تجنح نحو مطامح العزة والكرامة، التي تنكّبها رجال الله في الميدان نشوات ظفر وألق رايات كتبت بالدماء: فلسطين عربية.

هي فلسطين، مهوى الطقوس المتحركة صوب الفجر وصباحاته الندية، بل هي شطحات المساءات المتشحة بلبوس العار الذي رسمه أبناء صهيون على جبين العرب ذلاً لا يغتفر، أرهق ضمير هذه الأمة الغافية على أمجادها بضيق الأنفاس، السابحة على أمواج العدم، متناسية، عن سابق تصوّر وتصميم، قضية شعب فلسطين المشتّت في أقطار العالم، والقابع في مخيّمات الذلّ والهوان يعاني الأمرّين من ظلم ذوي القربى في بعض الدول العربية.

لهذا تبقى المقاومة شعلة الحق الذي يعلو ولا يُعلى عليه، هذه المقاومة التي عرفها كلّ لبناني، أكان حليفاً أم خصماً، شعلة وضّاءة، رسمت أقواس قزح على جبين الوطن، نصراً مؤزّراً بألوان ربيعية المواسم، وقدراً تاريخه متميّز بالتضحيات الجسام، وهذا يعني أنه ليس من السهل أن تكون فئة من المواطنين اللبنانيين حاضرة بجهوزية تامة على خط النار، من أجل ردع هذا العدو الصهيوني نيابة عن العرب أجمعين. هذا العدو الذي لا يزال يمنّي النفس بانتصارات تسجل على المقاومة، خصوصاً في الداخل اللبناني، من خلال بعض الأصوات المرتهنة للخارج التي تطالب بسحب السلاح الذي هزم «إسرائيل»، ومنح الوطن قوة لا يُستهان بها، وأصبح الورقة الرابحة أممياً، خصوصاً في المستقبل القريب، حين يحمى وطيس المباحثات الأممية، التي ترسم خططها الآمنة لشرق أوسط خال من الحروب والتوترات، حيث سيطلّ لبنان مفاوضاً قوياً بفضل سلاح المقاومة وانتصاراتها المجيدة التي سطرت بفيض من دم الشهداء تحريراً في الجنوب، وقهراً للجيش «الإسرائيلي» الذي قيل إنه لا يقهر، في العامين 2000 و2006، ولا تزال الدرع الواقية للبنان في الحاضر كما في الماضي… وكما ستكون في المستقبل، وإنْ شاء البعض طمس إنجازاتها في ذاكرته الصدئة.

لهذا… لا جدال في مسألة تأييد المقاومة المتوّجة بوفاء أهل الجنوب كلهم دون استثناء محازبين أم أنصار، هم الذين منحوا الأمن والأمان في بلداتهم وقراهم وبيوتهم، بفضل تضحيات المقاومة الجسام، وانتصاراتها الرائعة، وصبرها المتوّج بالعهد والوعد الصادق الأمين.

لكن ما لا يمكن تحييده وتجاهله، هو معاناة أهل الجنوب من الإهمال المزمن، الذي رفعته لوائح الوفاء والتنمية في الانتخابات البلدية والاختيارية بالأمس، ثبت عهد لأهالي الجنوب كلهم، ووعد برسم وتنفيذ خطط الإنماء في كلّ ضيعة وبلدة وقرية، وفاء لدم الشهداء وأهاليهم المتشبثين بالأرض عنوان كرامات لا تهزم ولا تستكين، لهذا أتى هذا الاستحقاق المؤزّر بالوفاء هدية غيث لا يجفّ، من الذين عاهدوا الله والوطن، أن يكونوا عنواناً للوفاء، الذي رفعوه عصر مقاومة للقهر والظلم والعنفوان.

لقد سجل أهل الجنوب، بكلّ فئاتهم وطوائفهم، وعياً وثباتاً ومواطنة صالحة من خلال مقابلتهم الوفاء بالوفاء، لهذا وقعوا أوراقهم بشعلة نور تهدى لرجال الله في الميدان وقائدهم السيد حسن نصر الله، وتأييداً مطلقاً للقضية الفلسطينية المكتوبة في صحائفهم منذ العام 1948 تاريخاً لا يمكن إهماله أو إسقاطه من حيثيات الذاكرة المتخمة بحوليات الزمان، الذي يشهد على تاريخهم الوطني، الذي هو تاريخ مقاوم لـ«إسرائيل» متوّج بالصمود في الأرض والثبات في مواجهة العدو، وإنْ اختلفت المعطيات والدعم اللوجستي بالسلاح الحديث والمتطوّر، الذي يرفد المقاومة حالياً بسلاح صاروخي مرعب لـ«إسرائيل»، عدّل موازين القوى بين الغاصب والمعتدى عليه.

لذا من المستحسن ونحن نستذكر حرب التحرير العودة إلى الماضي الذي له صولاته وجولاته في ذاكرتنا الجنوبية، التي ما زالت محتفظة بكلّ مشهديات الاجتياحات والمجازر «الإسرائيلية» الدائمة على أرضه، كما بكلّ صور الحروب الهمجية التي دمّرت البلدات والقرى بما تحوي من تراث وتاريخ معرفي وأدبي عريق، إضافة إلى القتل الجماعي للناس العزل الأبرياء دون شفقة أو رحمة، وتذرّع «إسرائيل» بحجج واهية ومنها اعتبار أهل الجنوب من المخرّبين، والمقصود كان الفدائيين الفلسطينيين، ومن انضوى معهم مقاوماً من شباب الجنوب، في الوقت الذي كانت قرارات الدولة والأمم المتحدة تحذّر وتمنع وتشدّد على عدم تحرك المقاومة ضدّ «إسرائيل» انطلاقاً من شعار: «قوة لبنان في ضعفه»، لهذا كانت غطرسة العدو الصهيوني تزداد شراسة عند كلّ طلقة من فدائي فلسطيني، كما أنّ اجتياحاتها لم تتوقف، وهمجيتها لم تتستر، وهي ما زالت حية في ذاكرة كلّ جنوبي عاش مرحلة ذاك الزمن المؤطر بالذلّ والهوان، وما أذكره انموذجاً لما فعلته يوماً «إسرائيل» على حدود بلدتي جويا الجنوبية، حين صعدت ملالة «إسرائيلية» على سيارة عائلة جنوبية من بلدة تولين وهي في حالة نزوح وخوف من طيران العدوا الذي يقصف الناس عشوائياً، فقتلت أفراد العائلة المؤلفة من تسعة أشخاص هرساً دون أن يرفّ لهم جفن، ودون أن تستنكر هذا العمل الوحشي لجان حقوق الإنسان العالمية وحتى المنظمات الدولية. لهذا لا يمكن لأيّ جنوبي مهما علا صوته في الانتخابات البلدية والاختيارية التي حصلت منذ يومين على أرض الجنوب أن يسقط الوفاء للمقاومة من أجنداته اليومية، أو أن يتنكّر للوعد الصادق الأمين، الذي يعدنا بالنصر دائماً وبالكرامة أبداً.

لهذا تبقى المقاومة كحل العيون ورفة القلوب المؤمنة بجنوب حرّ وفلسطين عربية، وتبقى اندفاق الفجر الندي فوق روابينا السمر المنداة بعرق مجاهديها الشجعان، ولغة الزمان الآني والمستقبلي الذي منها تتوالد عبارات النصر يقيناً ثابتاً، مهما استبدّ الآخرون، ومهما طغى المنافقون، ومهما ارتفع ظلم ذوي القربى.

سيبقى الجنوب خزان الرؤى الممتلئ بترياق الحياة، بل الرمز المقاوم الذي لا يمكن لأيّ كان مصادرته، لأنّ من رحمه ارتفع العشق هوى قومياً بل عربياً وطنياً بامتياز، لهذا على الجميع شطب الأسباب الموجبة لمقارعة بعضنا البعض عبر انتخابات بلدية، مجالها التنافس المشروع بين أبناء البلدة الواحدة من أجل رفع الوفاء للمقاومة شعلة إنماء يتشارك بها الجميع دون استثناء.

فكم نحن محتاجون حالياً لتوحيد الموقف المقاوم على جميع الصعد، حيث الخدمة العامة هي نوع من المقاومة ضدّ الظلم والاحتكار والاصطفافات العدائية، التي غالباً ما تكون عملية شخصانية غايتها السلطة والتسلط، في الوقت الذي يحتاج فيه لبنان إلى الهدوء والحكمة في تحديد المسارات، عبر رسم خطوط التفكير السليم الذي ينهي حالة الجمود السياسي التي تحول دون انتخاب رئيس للجمهورية.

هنا ربما على الثنائية الشيعية في الجنوب، أن ترفع جمهورها إلى مستوى قادتها وتفكيرهم العقلاني الذي يكرّس الإيمان باحترام الرأي الآخر المساند والمتعاون على الدوام، لأنّ الجنوب كان ويجب أن يبقى منارة للمقاومة التي أساسها العلم والعلماء والقادة النجب والحيوية المشحوذة لرفع شعلة الإنماء مقاومة مساندة على الدوام.

رئيسة ديوان أهل القلم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى