رفيق سبيعي لـ«البناء»: لم أعُد خائفاً على قضية النقد الشعبيّ

دمشق ـ آمنة ملحم

لمجرّد أن تسمع اسمه، تقفز إلى ذهنك من دون استئذان، صورة الشاربين المفتولين والسروال والطربوش. إنّه أبو صياح، «قبضاي الحارة الشعبية»، صاحب الأغاني المعتّقة البسيطة التي تلامس أرواح الدراويش وتغري الابتسامة بالارتسام على وجه كلّ من يسمعها. إذ يجد فيها ملامسة لروحه المتعبة وعزفاً على أوتار أوجاعه، وهي تحمل هوية لفنّ قلّ مثيله، واستحق القدير رفيق سبيعي أن يسمّى «مونولوجيست» لإتقان تفاصيله والتغلغل في عالمه إلى أقصى الحدود، حتى بات جزءاً من روح شخوصه، يدندنه معها فتخلّده ويخلّدها.

لم يكن المونولوج يوماً غريباً على «أبي صياح». بل لطالما التصق بقامته الفنية الشامخة التي وصلت إلى السماء وجعل جعبتها ذاخرة بأغانٍ شعبية تخرج من القلب إلى القلب. من هنا، جاءت فكرة مهرجان «كاريكاتور» لإحياء المونولوج والأغاني الاجتماعية الناقدة. وكانت محطته الأولى منذ يومين، تحيةً للفنان القدير رفيق سبيعي بحفل أحياه الفنان رياض مرعشلي والفرقة الموسيقية، بإشراف عدنان فتح الله، وبحضور وزير الثقافة السوري عصام خليل، والفنان سبيعي مع مجموعة من نجوم الفنّ السوري.

العرض تضمّن مجموعة من الأغاني الاجتماعية الضاحكة. فكانت البداية مع وصلة من أغاني «أبي صياح» الساخرة أبرزها «شرم برم كعب الفنجان»، قدّمها مرعشلي بالزيّ الشعبي. ثمّ خلع السروال وارتدى القميص والبنطال مع قبعة الحداثة، وقدم مجموعة من الأغاني المتفاوتة في جمهورها ما بين الشريحة البسيطة في المجتمع، والشريحة المثقفة من جهة الكلمات واللحن، وجميعها من تأليف وألحان رياض مرعشلي الذي بدأ انتقاداته لدار الأوبرا التي احتضنت الحفل فجاء فيها:

صار عنا دار أوبرا للدرويش وللمسؤول

وحطّولو خدم وحشم وحطّولو بروتوكول

بتفوت لابس كرافة وطقم وبتقفل المحمول

حلو التطوّر والحكي بس بدّي احكي وقول

الثقافة مو باللبس بالفكر والأدب والقول

وعرج في انتقاداته على الدولار وتلاعب التجار، وقانون السير، والكثير من مناحي الحياة الاجتماعية، كما لم يغفل الجانب العاطفي فكانت أغنية «زمن العواطف»، وكان للهجرة جانب من حفله فخاطب الأمّ:

ردّي شبّاك الأمل ما في حدا جاي

ولادك نسيوا المدينة نسيوا الحكاية

ولادك يا أمّي سافروا وكل حدا بحالو

كل مين عجبينو حلم وبراسو موّالو

وأكّد في أغانيه أن «العيشة صارت مرّة»، داعياً إلى الضحك ولو لمرّة. وختم مع «ماتت إنسانيتنا»:

ماتت إنسانيتنا

حنّيتنا ولهفتنا

كنّا نبكي عالإنسان

صرنا نبكي محبّتنا

قسينا وتحجّر هالقلب

داعياً الجميع إلى المحبّة تحت سماء الوطن:

لمّا القلب يتعب حضن الوطن دافي

لما الوطن يتعب بشيلو على كتافي

هاد الوطن أمّي دمّاتو من دمي

لما يزيد همّي غير الوطن ما في

وعن الحفل الذي جاء تكريماً للقدير سبيعي، أكد وزير الثقاقة عصام خليل في تصريح صحافي أن تكريم قامات إبداعية شامخة كالفنان رفيق سبيعي هو تكريم لأنفسنا، واعتراف بالجميل لهذا الإنسان الذي شكّل جزءاً من ذاكرتنا وذائقتنا النقدية، وبداية تعرّفنا إلى الفنّ الأصيل الجميل، وكل ما قُدّم هو من أشكال التعبير المجتمعي عن الشكر الجزيل لهذا الفنان لما قدّمه، ومحاولة لمحاكاته أو مقاربته في أعماله السابقة.

وأردف خليل: هذا الفنّ الجميل الناقد الذي يقدّم الفكرة العميقة بطريقة بسيطة، نحن أحوج ما نكون إليه اليوم. لأن التنظير يجعل الأفكار صعبة التلقّي. وبمقدار ما تخرج من القلب، بمقدار ما تدخل إلى القلوب.

ووجّه خليل الشكر للفنانين الأوائل الذين أبدعوا وقدّموا ورسموا ملامح نوعية للفنّ السوري عموماً، متمنّياً التوفيق للأجيال الجديدة التي تعمل لتأسيس فرادتها وتجربتها. وقال: طالما أنّ في سورية مثل هذه القامات القادرة على خلق إبداعها ومناخها وتميّزها الخاص، فبكل تأكيد أن مستقبل هذا الشعب لا يمكن إلا أن يكون متألقاً. لأنّ الشعب الذي أنجز الأبجدية الأولى والمقطوعة الموسيقية الأولى، قادر على هزم الإرهاب ومواجهة كلّ مظاهر القبح والبشاعة التي يحاول البعض تصديرها إلى سورية.

بدوره، أعرب فنّان الشعب القدير رفيق سبيعي في حديث إلى «البناء»، عن سعادته بهذه التظاهرة الفنية التي بعثت الأمل فيه، بأن قضية النقد عبر الغناء ستستمر، وأن هناك أجيالاً تحبّ النقد الشعبي كما كان يفعل في شبابه. وهم مؤهلون ليكونوا نقّاداً شعبيين، إنما يلزمهم التأنّي في طرحهم، ليوصلوا مقولتهم إلى الناس.

وتابع سبيعي: لم أعد خائفاً على قضية النقد الشعبي التي حملتها من نقّاد قبلي، طالما هناك أجيال تتبنى النقد الشعبي. وعن تكريمه في هذا الحفل قال أبو صيّاح: كما تزرع تحصد، وأنا زرعت. والنبتة انتعشت وكبرت وهناك من يسقيها باستمرار. هذا ما يجعلني متفائلاً بالاستمرار والتقدّم.

وحول العرض، رأى سبيعي جرأة في الطرح والمواضيع بأفكار جميلة، وأن هؤلاء الشباب كفلاء بالحفاظ على المونولوج واستمراريته، وهم نبتات تثمر في هذا المجال. ووجّه رسالته إليهم بعدم الاستعجال في إنجاز الأغاني، بل التأنّي في الأداء قدر المستطاع.

من جهته، لفت رياض مرعشلي في حديث إلى «البناء»، إلى أنّ هذا المهرجان يعدّ بادرة جيدة من وزارة الثقافة ودار الأوبرا لتنبهّهم إلى هذا النوع من الغناء وأهميته. وأن البداية كانت هذه السنة، ليكون مهرجاناً سنوياً. آمِلا في أن يتطوّر المهرجان في السنة المقبلة، وتدخله الدراما ليقدَّم بشكل أفضل وأنضج.

ونوّه بتنوّع الأغاني واللحن ما بين المونولوج الشعبي والمونولوج الاجتماعي بمفردات ثقافية أعلى، مؤكداً محاولته تغطية أكبر قدر من جوانب الحياة، لا سيما الأزمة التي تعيشها البلاد والتي أثّرت على كافة مناحي الحياة الاجتماعية والنفسية والاقتصادية.

كما أعرب الفنان القدير حسام تحسين بك في تصريح أدلى به إلى «البناء» عن تشجيعه هذا النمط من المهرجانات وهذه الأغاني التي تلامس بمواضيعها وجعنا ووجداننا وذاكرتنا. وأثنى على الأغاني التي ضمّها الحفل، إذ تناولت أوجاعنا خلال سنوات الحرب، وتطرّقت إلى تبدّل الإنسانية وملاعبات التجار والمعاناة القاسية التي تعيشها البلاد، ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى هذا الكلام وهذا التوجّه في الفن والأغاني.

«فرقة قصيد» تكرّم سلامة الأغواني

كما كرّمت «فرقة قصيد» الموسيقية بقيادة المايسترو كمال سكيكر، مساء أمس، المونولوجيست السوري الراحل سلامة الأغواني خلال حفل غنائيّ قدّمته بمشاركة كلّ من الفنانين رياض مرعشلي وعهد أبو حمدان وأسامة كيوان، ضمن مهرجان «كاريكاتور» لإحياء المونولوج والأغاني الناقدة الاجتماعية، وذلك في القاعة متعدّدة الاستعمالات في دار الأسد للثقافة والفنون.

وتضمّن برنامج الحفل وصلة من أجمل ما قدّم المونولوجيست الأغواني خلال مشواره الفني الطويل الذي امتد من الثلاثينات وحتى نهاية الستينات من القرن الماضي، والتي ما زالت باقية في ذاكرة من عاصروه أو من اطّلعوا على ميراثه الفني الغني والذي يتعدّى مئتي مونولوج ناقد وساخر ومنها «كل الحقّ عالداية»، و«في غلطة في الحياة»

الحفل الذي وزّع أغانيه المايسترو سكيكر قدّم للجمهور عدداً من المونولوجات الساخرة الجديدة التي أُعدّت لهذا المهرجان، والتي لا تقلّ أهمية عمّا قدّمته الفرقة من أغانٍ للأغواني. فقدّم كل من أبو حمدان وكيوان «لا تسألني عن حالي»، «المازوت»، وأدّى أبو حمدان من كلماته منفرداً «قفل عربي»، «كروب الدكي»، «بتفكّر إنّي مبسوط»، «روق شوي». وأدّى كيوان منفرداً «كلّه بيشبه بعضه» من كلمات أبو حمدان، و«طقطقلي» من كلمات مرعشلي، و«التجّار» من كلمات غسان فرحات. وأدّى مرعشلي من كلماته «حبيبنا ماشي مخترة».

وقال المايسترو سكيكير في تصريح صحافي: يقدّم المهرجان بشكل عام المونولوجات والأغاني الناقدة والساخرة سواء القديمة منها، والتي قدّمها عمالقة هذا الفن في الماضي، بهدف تكريم هؤلاء وتذكير الناس بهم وبفنّهم من خلال إعادة تقديم نتاجهم من المونولوجات الجميلة بتوزيع موسيقيّ جديد، أو من خلال المونولوجات الجديدة التي تعالج آثار الحرب على سورية حيث تستمدّ هذه المونولوجات موضوعاتها من واقعنا المعاش حالياً.

وأضاف سكيكر: مثّلت مشاركة «فرقة قصيد» في هذا الحفل الذي قدّمت فيه أعمال للفنان السوري الكبير سلامة الأغواني المعروف بمونولوجاته الناقدة والجميلة إلى جانب أعمال غنائية كتبت ولحّنت ووزّعت موسيقياً من أجل المهرجان.

يشار إلى المونولوجيست والفنان الراحل سلامة الأغواني من مواليد دمشق عام 1909، ويعتبر أحد روّاد الأغنية الناقدة. حيث قدّم عبر مسيرته الفنية التي ناهزت خمسين سنة، مئات الأغاني التي تحدّى بها المستعمر الفرنسي والمتآمرين على الوطن، إضافة إلى تناول الظواهر الاجتماعية السلبية. ومن أغانيه «شو سبب غلا هالأسعار» و«أخي الجندي» و«عيد الوحدة» و«نحنا الشوفيرية» و«كمل النقل بالزعرور». وتوفي الأغواني في دمشق في 6 آب عام 1982.

ويذكر أن «فرقة قصيد» أُسّست في بداية عام 2008 وتضمّ أربعين عازفاً ومغنّياً يعملون على أداء مختارات من التراث، إضافة إلى الأعمال التجريبية والإبداعية المحيطة بكلّ قديم وأصيل.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى