مصطفى بدر الدين… سيف المجاهدين

ابراهيم وزنة

في منتصف ليل أحد الأيام من العام 1997، وبينما كنت عائداً إلى المنزل، فجأة سمعت من يناديني من داخل سيارته عند محلة المشرفية، صوت بلا ملامح في عتمة الليل، توقّف في وسط الطريق ولم يتكلّم، يومها كان إلى جانبي زميلي علي الموسوي، فتوقّفت بدوري لأعرف من هو هذا المنادي، أقتربت من سيارته لأجد رفيق الصبا والشباب العزيز مصطفى بدر الدين، يا للصدفة الجميلة، تعانقنا مطوّلاً ثم طلب مني أن أركب إلى جانبه لنقوم بجولة نقلّب فيها ذكرياتنا ومطارحنا الجميلة، من دون تلكؤ ركبت معه، فراح يجوب الأحياء والزواريب المحفورة في ذاكرتنا… «هنا انتظرنا وهنا أكلنا وهنا سهرنا مراراً وهنا جلسنا مطوّلاً، وهنا وقع فلان عن الدراجة وهنا أطلقنا أوّل رصاصة وهنا أصبت الهدف… وهنا وهنا»، تحدّثنا في أمور كثيرة، وأدركت أنّ ظروفه الأمنية تفرض عليه القيام بجولات ليلية على الأماكن العالقة في ذاكرته وهو الوفي المخلص المسكون بالماضي الجميل.

هذا اللقاء العابر، حصل بعد سبع سنوات على لقائنا الأخير، والذي جاء عقب عودته من سجنه في دولة الكويت، في ذلك اليوم التشريني من العام 1990 التقينا في شقّة كان يقيم فيها بشكل موقّت ـ وكلّ الشقق التي يسكنها هي موقّتة ـ أخبرني… أنّ حراس السجن هربوا من مواجهة الغزو العراقي لدولتهم، ليسارع مع السجناء الى خلع أحد الأبواب، وبالتالي تمّت عملية هروبهم سريعاً، وفي الكويت راح يدرّب بعض الشباب المتحمّس على استعمال السلاح وصنع العبوات ونظّم الصفوف في سياق لاعتمادهم أسلوب المقاومة لتحرير بلادهم، أكثر من شهر ونصف الشهر واصل أداء مهمّته التطوّعية فيما النداءات كانت تصله من بيروت وطهران تحثّه على مغادرة الكويت… «نحن في انتظار عودتك وطريقك أصبحت آمنة»… هذه الكلمات قالها له عبر الهاتف رفيق دربه وصهره الشهيد الحاج رضوان، وبعد الاقتناع وصلت السيارة المخصّصة لنقله فأقلّته الى العراق حيث حرص على زيارة مقامات الأئمة قبل أن يحط في طهران ومن ثم الانتقال الى بيروت.

لمن لا يعرف الشهيد السيد مصطفى بدر الدين، فهو شجاع وجريء وسريع البديهة، هو من المؤمنين الخلّص، أصطفاه الله من بين أقرانه وأفراد عائلته فجعله متميّزاً في كثير من الأمور، أذكر أنّ جيرته للمسجد جعلته خادماً للمسجد، تارة يمسح الأرض وأخرى يجمع «السجدات»، وفي الحادية عشرة من عمره انضمّ إلى فريق الايمان لكرة القدم الذي كان يشرف عليه الحاج محمود قماطي، ونظراً لأنّ الأخير منعه ذات يوم من تسديد ضربة جزاء بقي الشهيد يذكّر الحاج محمود بفعلته «النكراء» كلما التقاه، ومن باب المداعبة فقط، ولطالما رافق بدر الدين من هم أكبر منه سنّاً، فهو أصغر اخوته الشباب، لكنه في الحقيقة هو الكبير في شأنه وفي عظمة تضحياته، وفي مسيرتيه الإيمانية والجهادية… «أنت كبيرنا يا مصطفى…» أنت عزّنا وفخرنا يا خيّي…» قالها شقيقه الكبير عدنان عند ضريحه وخرّ باكياً على الأرض، وعدنان يدرك أنّ الشهيد لا يرضى بذرف الدموع على الشهداء، والحقيقة تقال إنّ الشهيد وشقيقته «أم المصائب» سعدى كانا بمثابة الأئمة في البيت، حيث عبق الإيمان ومعنى الالتزام يترجم فعلياً في علاقاتهم مع بعضهم بعضاً ومع الآخرين.

كان الشهيدان عماد مغنية ومصطفى بدر الدين يمضيان معظم أيامهما في أواخر السبعينيات معاً، فالحرب الأهلية وما تبعها من انفلات أمني، والاجتياح «الإسرائيلي» للجنوب في العام 1978، ومن ثم اختطاف السيد موسى الصدر في ليبيا، وانتصار الثورة الايرانية في العام 1979… كلها عوامل رسمت في الثنائي الجهادي الكثير من ملامح النبوغ المستند إلى شجاعة عالية وفطنة كبيرة وحرفية مشهودة، وهنا أذكر بأنّ الشهيد مصطفى كان يهوى منذ صغره الرماية وفك وتركيب الأسلحة، مع حرصه على مشاهدة الأفلام الحربية و«الأكشن»، وأحياناً كان يشاهد الفيلم الواحد مرتين وثلاثة.

وبالانتقال إلى ميادين العلم، فكان الحريص على التحصيل، والمجتهد في تثقيف نفسه في شتّى أنواع العلوم، تارة في كلية الإعلام وأخرى في إدارة الأعمال، ورفاقه موزّعون على كلّ الجامعات، يلتقي بهم ويبثّ فيهم روح الجهاد، ومن هذا المنطلق طلب من بناته الأربع أن تتابعن تحصيلهن العلمي، وقبل رحلته الأخيرة الى سورية طلب منهنّ المشاركة في الانتخابات البلدية، وبالفعل دُفن والدهم يوم السبت وفي اليوم التالي كنّ على الموعد لتنفيذ الوصية. والكلّ يشهد في الغبيري بأنّ دماءه قد أعطت الزخم الكبير لتفوّق لائحة «الوفاء والتنمية» على اللائحة المواجهة بفارق كبير.

أما على الصعيد العائلي، فكان مصطفى بدر الدين بمثابة العمود الفقري في عائلته وبين أقاربه، يعرف كافة التفاصيل ويوجّه الإرشادات لمن يستحق، يزور الجميع على طريقة «الشبح»، فجأة يقرع الباب وبسرعة يضطر للمغادرة، ولوالدته الحاجة الصابرة «ام عدنان» الحصة الأكبر من الزيارات، ومع الأصدقاء كان يتفنّن في إطلاق التسميات والألقاب، ويلجأ إلى تغيير صوته عند مهاتفتهم، هو القريب الى القلوب وصاحب ابتسامة لا تفارق ثغره، دائم التسبيح والحمد، والكلّ يمنّي النفس بلقائه.

اختار السيد مصطفى لقبه «ذو الفقار» في مطلع التسعينيات، وخياره نابع من ذوبانه في شخصية الإمام علي بن ابي طالب، وأيضاً لتطابق فعل السيف مع أدائه ومواقفه في مواجهة أعداء الأمّة من صهاينة وتكفيريين.

منذ شهرين، توفيت ابنة شقيقته التي عاشت وتربّت في بيت جدّها وفي كنف خالاتها وأخوالها، خلال تقبّل التعازي حرصت على الفوز بلقائه على مدى ثلاثة أيام متتالية ولم أشبع من رؤيته، قال لي ممازحاً: «شو عملت مؤرّخ» في إشارة منه إلى كتابي حول الغبيري عوائل وأوائل معالم وذكريات تمنّى لي التوفيق وشجّعني على المتابعة في هذا السياق، عرضت عليه كتابة سيرته الذاتية، قلت له «أنت غيفارا هذا الزمن ومن حقّ أهل المقاومة أن يعرفوك أكثر»، فرد قائلاً: «من يدري قد تموت قبلي»…

قال كلمته ومشى، شهران على لقائي الأخير به، وعاد شهيداً، وبقيت عبارته مدوية ومغروسة في أسماعنا «لن أعود من سورية إلا منتصراً أو شهيداً»، نم قرير العين يا رفيق الدرب وساكن القلب، فالشهادة تقطف خيرة الرجال في آخر الزمن وهذا وعد الله، عدت إلى الغبيري التي أحببتها وانطلقت منها مقاوماً، عدت إلى روضة الشهيدين حيث انتظرك عماد وجهاد، عدت شهيداً ملء الوطن وبحجم أمّة، مصطفى بدر الدين وداعاً، أنت كبيرنا ومعلّمنا وقدوة الأجيال، لروحك منا ألف تحية وسلام.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى