الفدرلة السورية بغطاء أميركي…

سناء أسعد

في المعارك لا مكان لالتقاط الأنفاس، ولا وقت لتبادل المعلومات فقط ومجرد التصريحات. ولا سيما تلك التي تدخل في نطاق التهديدات، لتحويل المعركة إلى حرب استنزاف نفسية، بقصد إطالة عمرها. فنجد أنّ أكثر ما تمّ تحريكه دولياً واقليمياً، هو المؤتمرات ومحركات المجالس بضخ كبير للمزايدات، وإلقاء أعباء اللوم على الحكومة السورية…

دائماً يحملون في حقائبهم رزماً من الواجبات المقترحة والتي تقع على عاتق الحلف المقاوم من أجل التعاون في اتباعِ سبلٍ جدية للقضاءِ على الإرهاب، دون أن يحملوا همّاً في جعبتهم.

أيّ خطوة من خطوات المبادرة التي تمّ حصر سيرها في بوتقة التصريحات فقط، فلم نرى منها إلا الأوراق والكلمات التي تسيل الدماء من حروفها لفظاعة سموم حبرها… وتصرخ الأوجاع من هول سطورها الحزينة المصبوبة في قالب جليدي لا ينكسر، مهما سلّطت عليها الأضواء وتمّ نشرها تحت أشعة الشمس.. لن تصير مرئية لأنها انطلقت من عقول وقلوب سوداء متفحّمة منتفخة بالشرور، وأمر تطبيق عملية السلام وإنهاء الحروب على أرض الواقع.. مبهما بالنسبة لها…

السياسة المتبعة من قبل أميركا في حرب سورية دائماً تثير الشكوك، ودائما محطة للجدل والنقاش بجميع مفاصلها ومحاورها، لن انخرط في سياق الأمور السابقة، وكيفية تماشي السياسة الاميركية بمحاذاتها منذ اللحظات الاولى في الحرب على سورية.. وسأكتفي بالمرحلة الآتية… حيث نشهد الحضور الأميركي في حلبة الصراع السوري في الرقة.. مغايراً تماماً لما هو عليه في حلب وبدرجات ملحوظة…

ففي الوقت الذي تجاهلت فيه أميركا المطالب الروسية بضرورة فصل التنظيمات الارهابية المتمثلة في جيش الاسلام والفتح وأحرار الشام، والتي تُعتبرهم «معارضة معتدلة»، عن جبهة النصرة.. في حلب نراها توفر الغطاء الجوي لـ «قوات سورية الديمقراطية» في الرقة، والتي انطلقت عملية تحريرها من قبضة «داعش» من عدة اتجاهات.. تزامناً مع عملية تحرير مدينة الفلوجة العراقية من قبضة «داعش» أيضاً…

موسكو شككت في جدية انطلاق الهجوم باتجاه الرقة، ولكن وزير خارجيتها سيرغي لافروف أعلن في المقابل استعداد موسكو للتنسيق مع «سورية الديمقراطية» والتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لشنّ هجوم لطرد «داعش» من الرقة..

لا أحد يُنكر أنّ لهذه المعركة أهمية كبرى تكمن بالدرجة الأولى أنّ الرقة تُشكّل المعقل الأساسي لداعش.. والحصن الأساسي لها.

حيثُ يتواجد المخزون الاستراتيجي لترسانة «داعش» العسكرية فيها أيضا، وانهيار الرقة يعني انهيار «داعش» كقوى عسكرية في سورية، وهذا ما صرّح به القيادي عبد العزيز يونس…

ولكن التصريح الخطير يكمن في المعادلة المطروحة على لسان الأخير، والتي تقول أنّ اخراج داعش من الرقة على أيدي «قوات سورية الديمقراطية» يعني فدرلة سورية… باعتراف دولي كحلّ أمثل لمستقبل أفضل لسورية… تكون فيه «قوات سورية الديمقراطية» نواة الجيش السوري، بالاضافة إلى حضورها في المحافل الدولية كممثل لشعب سورية «الفدرالي»…

خطورة التصريح تكمّن في النقطة الأولى أكثر مما تبعها، أيّ الفدرلة… لأننا لا نستطيع إغماض أعيننا وحجب الرؤية عن الدور العسكري الذي قام به الأكراد ضدّ التنظيمات الإرهابية منذ بداية الحرب في سورية.. واعتبارهم أحد أعمدة الجيش السوري أمراً مستساغاً شرعياً وقانونياً ضمن الطبيعة العسكرية والسياسية، التي فرضت معادلتها طرق التعامل مع الحروب الجديدة التي نشهدها اليوم…

وشأن ذلك شأن ضرورة التمثيل السياسي للأكراد واشراكهم في المفاوضات، التي لا تزال معلقة تحت تأثير أوهام سقوف المطالب اللامتناهية… هذا التمثيل يُعتبر حقاً لكلّ المكونات والأطياف السورية… ولا سيما إذا كانت أفراد تلك المكونات على تخوّم الخطوط الأمامية لمواجهة الإرهاب، هذان الشأنان لا يشكلان خطورة على الحكومة السورية… وتسعى إليهما روسيا.. وترتضى عنهما أميركا… ولكن ترفضه في المقابل تركيا…

وهنا يكمّن لغز الطبيعة العسكرية والسياسية التي صاغت فرضياتها الحروب الجديدة…

فنجد أننا أمام مشهد معقد ومتشابك جداً… مليئ بالعقد والألغاز… ونجد أننا لسنا في دائرة الترقب والانتظار فحسب… بل نقف في قلب دوائر عديدة من التساؤلات.. والتكهنات… فتضطر للترقب بعيون جديدة غير تلك التي كنت تُرصد بها الأحداث سابقاً، وتنتظر على مفارق طرق ومنعطفات لم تكن في الحسبان أبدا…

لم ترد أميركا السلام أبداً لأيّ بلد عربي.. مهما كان الثمن، ويستحيل أن تكون يوماً صديقاً حميمياً للعرب.. وما يجمعها مع البعض منهم لا يخرج عن كونه مجموعة من المصالح والاطماع المشتركة ولا تصبّ في منحى أبعد من ذلك… وهذه القناعة لم تأتِ من محض الصدفة أو التخيلات، ولم تبنَ إلا على وقائع ومؤشرات ودلالات واضحة. اعتقد الجميع على سعة اطلاع بها، ومدرك لحقيقتها تماماً إلا من تعثر بها ووقع في شركها دون أن تستوقفه معتبراً أياها مطبات عادية…

ولكن في صياغة سياسة الحروب الجديدة معادلة تضعك مع عدوك في طرف واحد لمواجهة عدو آخر مشترك، كما في الرقة دون أن يكون لهذا العدو دور في مواجهة عدوك في مكان آخر. والمقصود هنا موقف أميركا من جبهة النصرة والفصائل الأخرى في حلب، هذا يدلّ إلى أنّ مصلحة أميركية تكمن في تحالفها في معركة الرقة مع القوات الديمقرطية للقضاء على «داعش» الذي ليس بالهدف الاساسي بقدر ما هو ما بعد تحرير الرقة من قبضة «داعش» وهو ما تضمّنته النقطة الاولى في تصريح عبد العزيز يونس بشأن الفدرلة السورية… فالأكراد يبحثون عن دولة لهم وقد تجمع حدود سورية وعراقية تركية.. كدولة كردستان الكبرى… وهذا ما سيكون بمثابة مقتل الاتراك… بتجاوز ما اعتبروه خطوطاً حمراء لا يمكن تجاوزها…

صياغة سياسة الحروب الجديدة في الساحة السورية.. جعلت من تركيا حليف أميركا لتفتيت الوحدة السورية بكافة الجوانب… وجعلت منها عدواً لها، إذا ما كان مفتاح عملية التفتيت هذه قيام دولة كردية على مقربة من الحدود التركية…

هي ذاتها الصياغة التي دفعت أميركا لمحاربة داعش في الرقة… وذاتها التي اقتادت حجاب وعلوش للتمثيل في المفاوضات كان من المفروض أن يحضرها دبلوماسيي السياسة وليس مجرمي الحرب… وهي التي اقتادت الأكراد لتحرير الرقة بغطاء أميركي…

يريدون أن تكون «روج آفا» بداية لشرق أوسط جديد لا «داعش» فيه، ولكن فيه دولة سورية مقسّمة جغرافياً على أسس طائفية وعرقية، هذا أقصى ما تسعى إليه أميركا وتل أبيب والدول التي تقلقها سورية الموحدة قلب العروبة النابض وعماد المقاومة ولا سيما إذا حفظت أميركا موطئ قدماً لها في شمال سورية، بنشر قواعدها في الدولة الكردية، فيصير جزءاً مهماً من الخاصرة السورية حليفاً استراتيجياً لها في المنطقة…

لذلك يجب أن يُدرك أخوتنا الأكراد أنّ مكانتهم السياسية والعسكرية محفوظة… ولكن يجب أن يكونوا أكثر وعياً لأنّ تقسيم سورية هو مشروع صهيو أميركي… وظفت جله غرف الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية قدرات وأمكانيات هائلة.. ووقف نزيف الدم السوري الذي سال فوق التراب السوري للحفاظ على وحدتها، والقضاء على الارهاب.. والنهوض من أنقاض الدمار، كحصيلة لسورية مقسمة لا يعتبر الا نصراً للحلف المعادي… ونجاحاً لمؤامرتهم وهزيمة نكراء لنا… وهذا ما لن يحصل على الإطلاق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى