في ذكرى التحرير في حضرة السيد

د. هاني سليمان

إذا كانت المجالس بالأمانات فإنّ ما أكتبه عما تسنّّى لي سماعه في لقاءات سابقة مع سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، قد روى بنفسه بعضاً منه، والبعض الآخر قد رواه لجريدة «السفير» في ذكرى الانتصار العظيم في 14 آب من السنة الفائتة.

وفي كلّ الأحوال فإنّ ذلك لم يعد سراً من الأسرار، وانّ إيراده في ذكرى حرب التحرير يهدف ويرمي الى تعزيز ثقافة المقاومة بما تعني من رؤية تاريخية لطبيعة الصراع مع العدو الصهيوني، ومن استشراف لمستقبل هذه الأمة، التي لا مستقبل لها بمعزل عن مقاومة المشروع الصهيوني الاستعماري.

وإذا كانت جميع اللقاءات مع «السيد» تزخر بالفائدة والعبرة والأمل، فإنه كان لي شرف مواكبة عدد من المحطات المؤثرة في تاريخ الصراع مع العدو، وكان أقربها إليّ ما كان في لحظات الحروب مع لبنان، حيث السيد حسن نصرالله قائد تاريخي يؤثر في مجرى الأحداث، بما يعيد للأمة ألقها وثقتها بنفسها.

ـ من هذه المحطات ما كان في حرب نيسان 1996 على لبنان، التي أسماها العدو «عناقيد الغضب». كنت برفقة الأخوين بشارة مرهج ومعن بشور، وكان السيد عائداً لتوّه من دمشق للقاء الرئيس حافظ الأسد.

تأخر السيد عن الموعد قليلاً، وإذ به يدخل معتذّراً بحرارة ونبل. كان اللقاء حميماً وتحدّث فيه عن بوادر انتصار سيكون مفتاح المرحلة المقبلة للنصر على العدو.

ـ ومن هذه المحطات، ما كان سنة 2005، وهي مناسبة جمعت بعض رجال الدين من السنة والشيعة وكنت أنا الوحيد غير المعمّم في هذه الجلسة.

تحدّث السيد متحسّراً قائلاً: نحن نعيش أزمة في المقاومة، لأنّ شعارنا الأساسي هو زحفاً زحفاً نحو القدس، ليضيف متسائلاً: هل نمارس هذا الزحف بعد التحرير؟ وقد صودف جلوسي الى جانبه، فوضع يده فوق يدي قائلاً: إذا سألتموني هل أنت قادر على الزحف نحو القدس أقول لكم بكلّ تأكيد، نعم إني قادم، إنما ما يمنعني من ذلك في هذه الأيام هو تعقيدات الوضع اللبناني.

لقد قالها السيد إيماءً وإيحاءً في مناسبات علنية متعدّدة، لكن معزّته للأستاذ طلال سلمان بعد سؤاله عن الشيب الذي خط رأسه، جعلته يقول علناً لـ«السفير» في ذكرى التحرير سنة 2015، إنّ هذا الشيب ليس بسبب الصراع مع العدو، بل بسبب الوضع الداخلي في لبنان.

ـ ومن هذه المحطات ما كان أيضاً في سنة 2005، حيث روى السيد قصة المبعوثين والمندوبين الأوروبيين المنتدبين من الإدارة الأميركية سنة 2003 لمفاوضته على سلاح المقاومة وهذه الواقعة رواها في مقابلته الأخيرة مع الأستاذ غسان بن جدو مع بعض التحفظ . قال السيد: جاءني وفد أوروبي يريد شراء سلاح المقاومة بمناصب وزراية سيادية في لبنان مقابل مبالغ مالية «لإنماء الجنوب»، على حدّ زعمهم، تصل قيمتها الى مليار دولار. كان جوابي يومها السيد «إنّ هذا العرض هو أقلّ من العرض السابق الذي تقدّمتم به قبل التحرير، والذي يقوم على تعهّد بالانسحاب الإسرائيلي من لبنان مع وزارات سيادية ومبالغ تفوق ملياري دولار، مع تعهّد جازم بعدم الاعتداء على لبنان وعدم انتهاك سيادته براً وجواً وبحراً».

ذهب الوفد، ليعود بعد عدة أسابيع عارضاً نفس التعهّدات السابقة مع وعد بمبلغ عشرة مليارات دولار، تصرف بإشراف السيد «لإنماء الجنوب»، وبتفويضه بإدارة الوضع السياسي في لبنان.

كان جواب السيد للموفدين: «هل أفهم من عرضكم هذا أنكم بمبلغ عشرة مليارات دولار تطلبون مني التخلي عن الصلاة؟»

كانت حالة الاعتزاز والوجْد عندي قد بلغت ذروتها في تلك اللحظات، فبادرته بالقول يا سماحة السيد: صحيح انّ المجالس بالأمانات، لكنك تتحدّث أمام عدد من الناس الآن، فهل يبقى هذا الكلام سراً من أسرار المعارك، وهل يسمح لنا الفضول بحبس هذه المعلومات في صدورنا ونحن نسمع ما نسمع؟ كان جوابه بسيطاً، صحيح أنّ في ذلك بعضاً من السرية، ولكن… لا بأس بمعرفته بصورة عامة.

ـ قبل حرب تموز بشهرين تقريباً تفضّل سماحته باستقبال وفد من منبر الوحدة الوطنية يرأسه دولة الرئيس سليم الحص.

كان اللقاء حميماً مع الرئيس، وكالعادة أكد سماحته اعتزازه بدور الرئيسين إميل لحود وسليم الحص اللذين كانا رئيسي الجمهورية والحكومة في ذلك الحين.

خرجنا من الاجتماع داعين له بالصحة والسلامة، ورافقنا السيد مودّعاً حتى عتبة الدرج المفضي من الطابق الأول الى الطابق الأرضي، حتى نزول آخر واحد منا. تعمّدت أن أكون الأخير في المغادرين لأبديَ له ملاحظة وتمنياً. فقلت له: يا سماحة السيد، خلال شهرين تسنّى لي أن أتشرّف بلقائك ثلاث مرات في نفس المكان، كما اني أراقب استقبالاتك على التلفاز وفي نفس المكان أيضاً. أأنا من يذكّرك بوجوب الحذر من غدر العدو الصهيوني؟ ابتسم السيد وقال «الله اللي بيسلم». قلت له: الله يحميك وعانقته كابنه، وأنا أكبره بعشر سنوات، وعانقني كأب، بالرغم من فارق العمر بيننا… وانصرفت.

في اليوم الثالث لحرب تموز 2006 جمعني لقاء مع بعض الأصدقاء. وكانت الحرب لا زالت في بدايتها. كانت وجهة نظري أننا في هذه الأيام وبكلّ المقاييس نسجل الانتصار التاريخي على العدو الصهيوني. لاقى كلامي هذا، استهجاناً من الحاضرين، وسخرية منهم لتسرّعي بقراءتي نتائج حرب لا زالت في بداياتها، الى أن جاء تقرير «فينو غراد» بعد سنة من الحرب، ليعلن فشل العدوان، في حين يصرّ البعض حتى اليوم، أننا لم ننتصر في تلك المعركة، أو للأسف إنه لا يريد لبلده أن ينتصر.

قراءتي هذه كانت بعضاّ مما اختزنته روح المقاومة وثقافتها في نفسي، ومما سمعت من سماحة السيد في تلك اللقاءات /الفرص/ التي حظيت بها.

أحزن على الذين لا يثقون بشعبهم، لأنهم لا يثقون بأنفسهم.

يوم تكرّم سماحته باستحضاري من المستشفى، جريحاً، لإلقاء كلمة تخليداً لشهداء «أسطول الحرية»، قال سماحته جملة هي مفتاح الانتصار: ثقوا بأمتكم فهي خير أمة أخرجت للناس.

رئيس لجنة المبادرة لكسر الحصار عن غزة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى