«الثورات» العربية… وتفكيك الجيوش والمجتمعات

راسم عبيدات

في بداية قيام ما يسمّى بـ»الثورات» العربية، وما رفعته من شعارات ومطالب اقتصادية واجتماعية ومن ثم سياسية، تصوّرنا بأنّ الهدف هو التغيير والإصلاح وتحقيق أعلى قدر من العدالة الإجتماعية والحريات العامة والخاصة، وبناء مجتمعات مدنية تقوم على المواطنة والمشاركة في القرار والقيادة وتداول السلطة ديمقراطياً إلخ… ولذلك وجدنا أوسع التفاف شعبي وجماهيري حول تلك الثورات. ولكن سرعان ما انحرفت البوصلة وجرى استثمار واستغلال تلك الثورات، خدمة لأهداف وأجندات ومصالح قوى مرتبطة بأحلاف ومشاريع سياسية كبرى، يُجري رسمها للمنطقة تقوم على تفكيك وتركيب الجغرافيا العربية على تخوم وحدود المذهبية والطائفية، وبما يمنع أيّ حالة نهوض قومي أو توحد، ولذلك بحثت أميركا عن شركاء لمشروعها هذا الذي كانت تحاول تنفيذه منذ عام 2000 و2006، لكنها فشلت في ذلك بفعل صمود حزب الله ومعه المحور المتماسك من قوى المقاومة وعلى وجه التحديد إيران وسورية.

جاءت ما تسمّى بـ»الثورات» العربية، وركبت جماعة الإخوان المسلمين الموجة، باعتبارها قوة منظمة كبرى، ولديها حنفيات ومزاريب أموال تضخّ عليها كمال سياسي، من أكثر من عاصمة خليجية وإسلامية في مقدّمتها السعودية وقطر والإمارات وتركيا، واعتلت حركة الإخوان السلطة في أكثر من بلد عربي وبالتحديد مصر، ولكن سرعان ما انكشفت حقيقة الإخوان، وأنهم لا يعرفون سوى مصالحهم ورفعوا ايديولوجيتهم فوق أوطانهم، وشرعوا بأخونة الدولة والسلطة والمجتمع، مما أدى لسقوطهم المدوي، ولكن بسقوط الإخوان لم يتوقف المشروع الأميركي ـ الصهيوني ـ الإستعماري الغربي على المنطقة بأدواته العربية والإقليمية، حيث تصّدر ذلك قطر والسعودية وتركيا.

المشروع التفكيكي للجيوش حقق نجاحات كبيرة في ليبيا والعراق، حيثُ أنّ تفكيك الجيوش من شأنه أن يفتح الطريق واسعاً أمام تفكك المجتمعات، وخصوصاً بأنّ ليبيا كانت دولة غير محصّنة مجتمعياً ولا تتمتع بمواصفات الدولة المدنية، وجيشها أقرب إلى ميليشيات عشائرية منه إلى جيش نظامي وطني، ولذلك وجدنا بأنّ تفكيك الجيش الليبي، سهّل بشكل كبير تفكيك المجتمع، بحيث تحوّلت ليبيا إلى ساحة حرب بين مليشيات وعصابات متناحرة، حروب عشائرية وقبلية، تسفك فيها دماء المدنيين وترتكب مجازر، فالحرب تجري على البيئة المدنية لهتك نسيجها المجتمعي، وبالتالي تنفصل مكونات المجتمع إلى قبائل وعشائر وملل وطوائف، وتفقد القيم المدنية معناها بين الناس لصالح القيم البدائية التي تحيي حرباً مزمنة بين أطياف المجتمع تتغذى وتشبع يومياً من البيئة اللامدنية التي تحوّل ماء المجتمع إلى مستنقع.

وفي العراق وجدنا مباشرة بعد إحتلاله في عام 2003، أول خطوة قام بها الحاكم العسكري الأميركي للعراق «بريمر» هو تفكيك الجيش العراقي، لكي يسهل تفكيك المجتمع العراقي، والذي وجدنا أنّه بعد تفكيك الجيش العراق واستيلاد ودعم ما يسمى بتنظيم «الدولة الإسلامية «داعش» واستيلائه على مساحات واسعة من أراضي الدولة العراقية، كانت المجازر تُرتكب بحق المدنيين بشكل كبير، وجرى ويجري عمليات تطهير عرقي بحق جماعات أثنية ودينية كاملة، ودخل العراق في حروب مذهبية وطائفية وتقسيمات عشائرية وقبائلية، في حروب الهدف منها خلق ثارات وندوب وجروح عميقة ومستديمة في المجتمع، تمنع لملمة تشظياته والعودة به لمجتمع مدني لأكثر من مئة عام قادمة على الأقل،حيث تتحول المجتمعات إلى مجتمعات بوهيمية تحكمها الغرائز والعواطف، وتعمل القتل والدمار في بعضها البعض، في حروب تذكر بحروب «داحس» و»الغبراء» وحرب «البسوس» وغيرها.

هذا المشروع الذي نجح في ليبيا والعراق حاولت أميركا والمروحة الواسعة من حلفائها صهيانة وسلاجقة وعربان مشايخ ونفط تطبيقه في سورية، ودفعوا بمرتزقتهم وعصاباتهم من أكثر من 80 دولة في حرب عدوانية إجرامية على سورية، ولكنها طوال خمسة سنين لم تنجح في كسر إرادة السوريين ولا فك عُرى العلاقة بين الجيش السوري المبني على أسس وطنية وعقائدية وبين حاضنته من المجتمع المدني، ففي ليبيا والعراق، التدخل الخارجي فكك ودمر الجيش، وسهل تدمير وتفكيك المجتمع المدني ولكن في سورية لم يكن تدخل عسكري مباشر، ومن انيط به من الحلفاء للقيام بهذه المهمة، تركيا فشلت في ذلك فشلاً ذريعاً، فرغم كلّ الحرب والضربات التي تعرّض لها الجيش السوري، وما رافق ذلك من تحريض مذهبي وطائفي وتشويه وإشاعات وأخبار كاذبة وتلفيقات، لم تثمر في حصول أي انشقاق جدي، وذلك لكون البيئة الحاضنة للجيش لم تتآكل ولم تتفتت، وإنشقاق الجيش يكون عندما ينهار المجتمع الذي ينتج الجيش ويستند عليه الجيش.

هذا الفشل قاد أصحاب هذا المشروع وحواضنهم وأدواتهم التنفيذية لشنّ حرب شاملة على المجتمع المدني السوري، حيث التفجيرات الإرهابية وعمليات القتل الوحشية والمجازر المروعة بهدف زعزعة الإستقرار في المجتمع المدني، لكي يتمّ خلق حالة من الإنفصال والخصام والعداء بين الجيش وبيئته الحاضنة، وبما يشغل الجيش عن القيام بدوره في اجتثاث واستئصال الجماعات الإرهابية، ولهذا فالمجازر المتنقلة والتي يتناوب عليها داعش والنصرة والفتح وجيش الإسلام وأحرار الشام، هي عمل منظم خبيث غايته أبعد من مجرد عملية ثأر بل عملية ضرب المجتمع والقيم المدنية، تديره نفس الجهات التي تتفاوض من واشنطن و خلفها تل أبيب.

وكما قال سماحة السيد نصرالله، فإنّ الأشهر المقبلة ستشهد عملية تصعيد غير مسبوقة في القدس المحتلة ، و حلف المقاومة سيفرض معادلاته وسينتصر، وستنهض سورية من جديد، لتبقى رقماً صعباً في المعادلات الإقليمية والدولية.

Quds.45 gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى