بلديات 2016.. ليست بورصة أحجام سياسية! 3

هاني الحلبي

تتابع مراحل الاستحقاق البلدي، وغداً تحلّ المرحلة الرابعة والأخيرة في محافظتي الشمال وعكار.

وفي المراحل الأربع وخلالها تكشّفت عيوب النظر والسلوك إلى الاستحقاق البلدي بأبشع صورها لتكشف أسباباً مؤسسة لتعطيل التنمية العامة بالمؤسسات البلدية التي تصبح مجرد أدوات سياسية فئوية وحزبية يديرها أقطاب لأهدافهم الحزبية والطائفية والفئوية.

فإذا كانت انتخابات زحلة، في المدينة التي كانت تتسمى بمقبرة الأحزاب، كرست قدرة التحالف الحزبي فتمكّنت من إفقاد المدينة من أقطاب زحليين كبار من أن يكون ممثلوهم في المسؤولية البلدية لتطرح الصوت بجدية على كل وطني حريص أن النظام الأكثري جريمة بأية صورة كان عليها، بلدياً أو نيابياً.

وفي انتخابات جونية تكرّرت لعبة الأحجام السياسية وتبلور في الصندوق حساب الأقوى، الذي كان معروفاً أنه أقوى، لكن توفرت لديه أرقام حاسمة على قوته يعترف بها مَن معه ومَن ليس معه. لكن أضيفت نقطة اعتبار القوة الراجحة في الانتخابات البلدية بجونية خطوة على طريق بعبدا. وكانت هذه الخطوة جرعة مساعدة لاختصار الطريق إلى بعبدا بدلاً من العبور بمستديرات الدورة والصالومي والحايك والصياد، لو كان السياسيون الرافضون عون رئيساً والذين بأيديهم حساب أصوات النواب في كتلهم النيابية يحترمون الرأي العام، فإن أعطى التزموا بما أعطى فيقدموا لأن إعطاءه تكليف، وإن حجب عنهم دعمه استقالوا وأفسحوا الطريق لمن كلفه ليتسلم راية العمل، سياسياً وبلدياً.

وفي هذا المطلب رفعة قيم قلة من يدركها والأقل منهم من يمكنه تطبيقها بمسؤولية وحرفة.

فقد كان لي شرف خدمة مدينتي لسنوات ثلاث في أعوام 1998 و1999 و2000 وأدّت ملفات وأخطاء في عمل بلديتنا تلك إلى نزاع قوي دام أشهراً انتهى باستقالات أغلبيتها فتمّ حلّ البلدية.

في الانتخابات التالية قرّرتُ الترشح على طريقة معرفة الأحجام مَن مع المحاسبة والمكاشفة والشفافية وإصلاح الواقع البلدي ومَن ليس مع هذا النمط الراقي في العمل العام، على أني أوزّع لكل بيت في البلدة بياناً ملخصاً عن حصيلة ما حصل من أخطاء سابقة طالباً تلافيها في الهيئة المزمع انتخابها، ولا أزور أي ناخب ولا أطلب الدعم من أحد. حقاً، لا أعرف إن اقترعت لي زوجتي حينذاك. فلم أطلب منها ولم أسألها ولم تُخبرني! وبعد قيامي بالاقتراع عدت إلى المنزل وليس عندي أي مندوب يحسب أصواتي ويطالب بحقي إن تمّ هدره! بقي ينقص حصيلتي من الأصوات 45 صوتاً لأكون آخر الناجحين. لم أوفّق. قرأتُ الرسالة. جمعت كل ما له علاقة بالعمل البلدي والعام في محفظة وأقفلتها منذ 14 سنة وما زالت. وخرجت للناس بروح جديدة وعزم جديد. أكملت رسالتي في الفلسفة السياسية عن فلسفة القيادة ونلت أرفع معدل تعطيه الجامعة اللبنانية حينذاك في حزيران 2004. والأهم قننت الوقت الذي أعطيه للوجاهات والواجبات الاجتماعية لتثميره في رفع السوية الذاتية والعلمية والإنتاج الفكري والأكاديمي والأسري. لم أنقد أي عمل لأي بلدية حتى الآن. البلديات اللاحقة لولايتنا لم تنجح كفاية كانت عاصفة بالخلافات وتدنى مستوى التعاطي بين أعضائها لدرجة التشهير والتضارب بالأيدي ولم تحقق إنجازات إلا نادراً منها بناء قصر بلدي وأجزاء من شبكة الصرف الصحي.

لا أدري إن كان ممكناً الطلب من الخاسرين اتخاذ هذه التجربة قدوة.

إحدى الأفكار الفاعلة خلال ولايتنا البلدية كانت سبباً للتواصل مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد لطلب هبة من الأشجار هدية لجبال قضاء راشيا الوادي الجرداء. علّق أحدهم في اجتماع بلدي «ليس لدى الرئيس السوري سوى طلب هاني الحلبي ليلبّيه!!». كان جوابي أنّ بلدية راشيا تعني الكثير للرئيس الأسد فهي على واسطة العقد بين دمشق والقدس. ما إن انتهى الاستفتاء في شباط العام 2000 حتى أخبر رئيسَ البلدية الأستاذُ نصري الخوري، الأمين العام للمجلس الأعلى اللبناني السوري، أنّ الرئيس الأسد الأب وهب بلدية راشيا مئة الف شجرة. عشرين ألفاً مثمرة وثمانين الفاً حرجية.

حينذاك حرّجنا أحرأجاً عدّة وعمّت النصوب بأعمار سنوات عدة قرى القضاء وما حوله. زرعنا غابة أسميناها «غابة بشار الأسد» لأنّ الهبة كانت باسمه للبلدية. البلديات التالية ناصبت سورية العداء وصنّفت نفسها سياسياً، فخسرت قنوات عمل ودعماً غير مشروط لتزخم عملها من قوى وربما من دول لا تلائم مرجعيتها السياسية.

لا أدري إنْ كان ممكناً الطلب من الفائزين اتخاذ تجربة عملنا قدوة.

فانتصار فريق ولو بأعداد محدودة لا يبرّر له واقعياً أن يفرض ما يريده في المتحد البلدي، بسبب أرجحيته الأكثرية المحدودة على سياق مدينة واستراتيجية العمل البلدي فيها، بخاصة أن أي فريق منتصر يعمل عادة بروح انتصاره كفريق ونادراً ما يترفع في أدائه عن نزعة الفريق المنتصر الذي يثأر من الفريق المنهزم في الاستحقاق. ونادراً ما يفكر المنتصر في ما بعد انتصاره وكيف يديمه ويحافظ عليه ويوسع شريحة تأييده بالعمل البناء وتعميم المنافع، بل بزيادة التحالف السياسي.

واعتماد التحالف السياسي لخوض الاستحقاق البلدي يؤسس للعبة الأحجام والنظر للبلدية أنها مقياس ومعيار لهذه الأحجام السياسية وكأنّ الانتخاب هو حالة إحصائية صرفة لتثبيت تلك الأنا الفئوية على حساب غاية البلدية كمؤسسة عامة منتخبة.

فقط، في حالة ما تتعرّض له المقاومة في لبنان من حرب كونية تُزجّ فيها الدول والسفارات والمصارف، فإنّ اكتساح روح المقاومة بلديات واتحادات بلديات بعفوية شعبية ليس تسييساً حزبياً، بل هو ردّ وطني على اعتبارنا مجرد كانتونات وساحات للتدخل والتنازع والتحاصص والاقتسام الدولي الخارجي. إن هذا العهد المذلّ فعلاً قد ولّى إلى غير رجعة!

باحث وناشر موقع حرمون

haramoon.org/ar

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى