النهايات العظيمة أكثر جدلاً في المرويّات تنفي موت الزمّار!

النمسا ـ طلال مرتضى

الأنثى التي فتحت قريحتك لكتابة رواية من التناقضات والخسارات قبل أن ترحل، ليست بخسارة أو حكراً لك. لم تكسرك بل قوّمتك وقوّتك. حين تقرّ ملء فمها بأنك لست الرجل الأول في حياتها، لم تخنك. في «مقصلة الحالم» لم توارِ «سعاد» الحقيقة التي تقبلتها بطيب خاطر. كنت غارقاً من أعلاك حتى أخمصك في ألف يائها:

«لم تكن الرجل الأول في حياتي. أنت الرجل الثالث. لكنك الوحيد الذي منحني ذاتي التي استعدتها كما لو لم تغادرني قط».

وأنا أكتب هذه السطور الآيلة إلى المسح بكبسة زرّ، شعرت بانشراح في صدري، كذلك وأنت تقرؤها منّي تلمست ذلك في استهلالات وجهك.

ثمة من يعتقد أن الحبّ/العشق مؤسّسة خاسرة. لتكن. هل نسيت لثغ نشوتك، رهج الرعشة التي سقطت صريعها؟ سأسلّم بكل ما تقدّم على أنكما الحكاية التي تشكلت منها النار، وكي يستقيم أوارها لا بدّ من وقود. أعرف أنك الآن تبدو منتصراً حين تدحض فكرتي. فالنار تحيل وقودها رماداً بعد أن تمتصّ ماويته. نعم هذا ما حصل بالفعل، فعندما يلتحم العاشقان يستحيلان رماداً وهي ذروة بلوغ الرعشة.

من خارج النصّ قال قائل: لم تنتهِ الحكاية بعد، الرعشة هي طائر العنقاء الذي تشكّل من جرّاء وحدة روحين أسلما لخسارتهما.

هناك لحظات لا يمكن محوها من الذاكرة. لحظات الحقيقة المطلقة. «سعاد» كانت الشمس التي لا يحجب نورها غربال سمل. عد خلفاً كما الرواة لبرهة لتسترجع بعضاً من تناقضات روحك الهائمة. الراوي العارف يعود بقارئه خلفاً بسلاسة متناهية، هو الوحيد الذي يملك سلطة «الفلاش باك» وأوّل من اجترع في متن السرد «المونولوغ» من دون أن يخلّ ريتم الحبكة. نعم تستطيع النار التهام كتاب احتاج الكاتب إلى تأليفه سنوات، لكنها لا تستطيع محو الأفكار من رأسه. لست أدري إن كان هذا القول لي أو للكاتبة «جورج ساند» ذات مقال. أنا حارس الكلام ليس إلا. وكي لا أنسى، كنت أدوّن في ذاكرتي كلّ القصائد، أحفظ عن ظهر قلب قول «سعاد»، سأستعير بعضاً ممّا دوّنته: تعال نترجم كلّ كلمات الانتظار إلى لغة جديدة لا يعرفها سوانا. لغة قلمها أنت وورقتها أنا. أنا ورقة بيضاء بكر لم تحفل بالحبر.

الذي يعتقد أن الغربال يحجب الشمس هو أعمى. كنت أقرأ حينها كيف نفر دم القريحة إلى ذروة رأسك مثل بركاناً خاملاً استفاق للتو من غفوته.

عبر نافذة الرسائل كانت أصابعك فوق «كيبورد» الحكي تشكل لوحة فسيفسائية الكلمات، جمع وحداتها بعناية مايكل آنجلو بعد ارتشافة نبيذية من جسد رخامي تركه مسجّى على إحدى بوابات الفاتيكان. بحلمتين متوثبتين تدران ماءاً يروي ظمأ الحجاج الذين أمّوا المكان للتبرّك وطلب المغفرة.

الشابكة اللعينة يظنّ الكثيرون أنها آمنة. تنقل كلماتنا وصورنا، وأنفاسنا ولثغات لهاثنا كذلك رعشتنا الافتراضية كما هي، من المرسل إلى المرسلة إليه. الذي اخترع «الداتا بايز» لم يكن عابثاً أو متلصّصاً على أسرار البشر، بل كان متيقناً كل اليقين أن أحدنا سوف يلغي كلّ ما تقدم بكبسة زر. أنت لست بريئاً بما فيه الكفاية لتدحض أو تجحد كل هذه الحقائق يا «خالد»، ألست من كتب ذات كيبوردية هذه الكلمات: بدت تسريحة شعرها، كقصيدة نثرية، ليس أمامها أي عقبات للقول. عيناها اللتان كانتا تبرقان كأنهما كلمتان جميلتان قيلتا منذ أمد بعيد. وما تزالان تعيدان إنتاج إيقاعهما الجميل، الذي يتكرّس مع الزمن موسيقى أصيلة.

لقد أصبتها في مقتلها أيها اللئيم، يكاد التصفيق الذي ألهبت كلماتك أكفه يصمّ مسمعي. الجمهور يعشق هذه الكلمات، ملّ الخطب الرنانة، وجد أناه بين حروفك، ليت «الداتا بايز» تلتقط الآن صورة لوجه «سعاد» وهي تتلقى رسالتك. الله، الله، كنت سأشترع مقالاً يثير قريحة محرّر الصحيفة، وقد يقف مصفّقاً جاهراً بالقول: يا لئيم، استطعت التقاط اللحظة. المحرر الثقافي لديه من اللؤم أكثر مما ينبغي. كثيراً ما كان يستعمل سلطته عبر ما يسمى «مقص الرقيب»، ويجتزّ أهمّ اللحظات جدلاً وإثارة في متن المقال، بحجة خدش الذائقة القرائية. نعم أصابها في مقتلها بعدما ضغط على «enter» ـ إرسال ـ استشفافاً كانت في تماهي تام مع روحها كورقة عبرها خريف العمر تطفو باتزان على صفحة ماء رقراق من اللذة. المرأة العاشقة لا تستطيع أخفاء ما هي به، فهي ليست كاذبة أو خائنة كما نعتقد. كانت الشمس، حين أقرت سالفاً بأنك لم تكن الرجل الوحيد في حياتها. لكن «سعاد» في آخر رسائلها «الفايسبوكية» كتبت لك من دون تحفّظ، اقتباساً بأنها: امرأة لم تحفل بالرعشة الأنثوية ولو مرة واحدة، إلا معك.

في جل لحظات الانسجام لم يكف هاتفها عن الرنين. كنت أطلب منها الردّ لأنه يعزلنا أثناء المحادثة ويقطع الأفكار التي نشكل منها قصائدنا. كانت تردّ بثبات: دعه يرنّ، المتصل هو حبيبي السابق، يتوسّلني للعودة. كنت أردّد: دعيه يرنّ حتى يتعب.

على القرص المدمج في «الداتا بايز» ثمة حقيقة غيّبت عمداً، تدلي بأن الكاتب ليس بريئاً بما فيه الكفاية، في مضرب المثل تقول الجدّات استدلالاً: الزمّار يموت وأصابعه تلعب.

في الأمس القريب كنت أراني أبثّ رسائلي عبر النافذة «الفايسبوكية» من دون أن يصلني إشعار الاستلام. لكن جلّ ما يقهرني عدم الردّ على اتصالي. شعرت لوهلة أن جرس الهاتف سيصاب بالخرس وهو يرنّ من دون مجيب. كل النهايات أنيقة، ولعلّ أجملها بحسب قول ديفيد هربرت لورانس: الموت هو النهاية النقية الجميلة الوحيدة لعاطفة عظيمة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى