بين الإبهار والإقناع أسلحة ذكية تواجه القضية؟

سعدالله الخليل

بين الإبهار والإقناع، تدور معادلة التأثير والسيطرة على العقول والمشاعر والنفوس، في زمن تلاشت فيه الحدود بين العناصر المكوِّنة للأفكار والمعتقدات، مع القدرة الهائلة لوسائل الاتصال على الضخّ بكمّ هائل من المعلومات والإشارات واضحة المعالم مخفيّة المرامي، بالتزامن مع سهولة المزج بين أكثر من وسيلة للتأثير، ليصبح من الصعوبة بمكان الفصل ما بين الإبهار والإقناع، في القدرة على التأثير، حيث غلُب على وسائل الإعلام خلال العقد الماضي، جانب الإبهار على المنحى الإقناعي وغابت الحجج المقنعة والبراهين الدامغة، وبات المطلوب من المتلقي الاسترخاء والاكتفاء بالذاكرة السطحية التي تلعب عليها وظيفة الإبهار، وتخدير الجانب العقلي والذاكرة التراكمية التي تغذيها القناعات الراسخة، ليُسهّل بناء قناعات جديدة بصورة تراكمية تحلّ مكان ما هو مكرّس، وربما ما هو مقدّس، في العقد الاجتماعي وتهيئة الأرضية المناسبة للتغيّر الفكري في العقلية لشريحة جلّها من الشباب المندفع التواق إلى التغيير، لتأتي وسائل التواصل الاجتماعي وترسخ تلك الأفكار.

بهذه الآلية، نجح الغرب في التسلل إلى فكر الشباب العربي حاملاً معه الفكر الصهيوني والدعاية لكيان الاحتلال «الإسرائيلي»، وقد نجح العدو، بكلّ أسف، في ابتكار أساليب التغلغل إلى الجسد العربي الشاب، لبراعته ولتقصير العرب، فلا يُلام عدو على جهوده بالسعي إلى تحقيق أهدافه باختراق عقول أعدائه وقلوبهم، دفاعاً عن أفكار وأهداف رسم لها بتأنٍّ وحرفية، بغضّ النظر عن قناعته بصحة وصوابية تلك الأفكار والمعتقدات، بل ينظر بتوجُّس وأسى إلى الضعف العربي في كشف تلك المرامي، والقدرة على الانتقال من دائرة ردّ الفعل إلى موقع الفعل في التعاطي مع وعي الشباب العربي حيّال قضية الصراع العربي ـ «الإسرائيلي» على أقلّ تقدير، وإخراجها من القوالب الرسمية الأيديولوجية التي تصوّرها على أنها منتج لأزماتٍ سابقة، لا علاقة لها بالواقع اليومي المُعاش للشباب العربي، فلا يعي حيوية تلك المفردات وعدالة قضيتها وأنّ وراءها معاناة إنسانية ووطنية وتحمل ذكريات وعواطف وثقافة شعب لأنه لم يتلقّها سوى من منابر الوعظ والإرشاد التي تضع العوائق المباشرة للولوج إلى عوالمه، من دون أن تداعب مشاعره في لحظات الاسترسال في العالم الافتراضي، مقابل مئات الصفحات التي تغزو عقول الشباب العربي، والتي تتغنّى بجميع مناحي الحياة في الكيان، وتروج لعشرات المفاهيم والرؤى الصهيونية، ولعلّ أخطرها تلك التي تتناول يوميات الحياة «الإسرائيلية» بلغة عربية سلسة وبسيطة، إضافة إلى شخصيات كبار القادة «الإسرائيليين» الحريصين على بناء صلات مباشرة مع الشباب العربي، وتلقّي ردود أفعالهم مهما كانت قاسية أو مُحرجة، فلا ضرر لدى شخصية بحجم أفيخاي أدرعي، المتحدث بلسان جيش الاحتلال «الإسرائيلي» للإعلام العربي أن يتلقى على صفحته العربية يومياً عشرات بل المئات من التعليقات الشاتمة لكيان الاحتلال، التي تُظهر هشاشة جيشه ووحشيته، بما يؤمّن الاستثمار المضاعف فيُظهر رحابة صدر المؤسّسة العسكرية بتقبل النقد من منطلق حرية الرأي من جهة، ويفتح الباب أمام ردود مناصرة له تقزِّم المنطق العربي والحقّ الفلسطيني بتكرار عبارات المديح من شخصيات تحمل أسماء عربية تفنّن العدو في إنتاجها وتسويقها عبر منابر استخباراتية، بما يخدم الحالة التفاعلية التي يتوخاها العدو في النهاية من تلك الوسائل. يمزج أدرعي، المتقن للغة والثقافة العربية والإسلامية والعارف بآلية التفكير العربي، على صفحته ما بين الخطاب العسكري والاستمالات العاطفية والدينية للجمهور العربي المسلم. ولا يضيّع الثعلب الصهيوني فرصة مرور يوم الجمعة من دون أن يتوجه بالدعاء لله قائلاً: «أسأل الله أن يجعلك مباركاً موفقاً مسدداً صالحاً ومصلحاً وأبعدك عن أبناء الحرام ومحبّي الإجرام ومُحرّضي الأطفال… اللهمّ أنر طريق أبنائنا وأحبابنا وأبعد عنا شرور أعدائنا»… ويختم دعاءه بعبارة «جمعة مباركة»!

وإذا كانت رسائل الناطق باسم جيش الاحتلال تعتمد اللعب على الأفكار والعواطف، فإنّ رسائل أوفير جندلمان المتحدث باسم رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو واضحة الرؤية، ومفادُ رسالته للعرب: «كلّ قياداتكم إرهابية وأفكاركم إرهابية، وإن أردتم السلام فهو فقط في أحضاننا…». هكذا هي الخلاصة التي يتوصل إليها من يتابع نشاطه على مواقع التواصل الاجتماعي.

وبعيداً عن السياسة والحرب يتغلغل العدو في ذهنية الشباب العربي من بوابات صفحات معلنة، تروج للقيم الإنسانية في الكيان، وتتباهى بقيمة الفرد، وتغطي نشاطات اجتماعية ورحلات، ونشاطات في الطبيعة والهواء الطلق. ولا بأس من الإشارة إلى أنّ المشاركين هم مزيج من اليهود والعرب، بما يضفي أجواء أخوية وحميمية، توحي بالتآخي، وتضيف على المكان سحراً… أو الترويج لفرقة عربية تعزف ما يسمى «النشيد الإسرائيلي»، ويستمتع الحضور بأنغام العود والرق، فـ«الحياة جميلة» بـ«عيون عربية إسرائيلية»، لا يعكِّر صفوها وجمالها إلا عربي كاره للحياة والحب، يستلُّ سكينه، أو يفجر نفسه، ليفرض الموت على محبّي الحياة…!

هذه هي الرسائل الخفية والمعلنة التي تحاول تلك الصفحات إرسالها بالتعاون مع خرّيجي المؤسسة الاستخباراتية تشكل وحدة مكافحة التحريض إحدى منابرها، فبالإضافة إلى دورها في تعقُّب واكتشاف الأفلام التي تتضمن فحوى تحريضية، وتقديم شكوى لإدارات المواقع التي تنشر الأفلام لإزالتها، وتطوير كلمات مفتاحية باللغة العربية، لزيادة مدى القدرة على اكتشاف الأفلام ليشكل المجال الثالث محور الدعاية الصهيونية على الخط المعاكس للدعاية الفلسطينية، رداً على ما تسمّيه مضامين التحريض الفلسطيني، بحسب تعبير الخارجية «الإسرائيلية»، فحرب الدعاية «الإسرائيلية»، نواة أدواتها خريجو وحدة التجسّس الإلكتروني التابعة لجيش الاحتلال، المعروفة باسم «الوحدة 8200»، إضافة إلى خبراء في اللغة العربية والمجتمع قادرين على اختراق مواقع التواصل الاجتماعي والتحكم به لخدمة مشاريعها.

أمام حجم القدرات الكبيرة وإمكانية الوصول، ثمة ما يعرض تساؤلاً عن أسلوب المواجهة والردّ في العالم الافتراضي المطلوب للانتقال من موقع المفعول به إلى الفاعل في عقول الشباب العربي أولاً، والانتقال إلى التأثير في عقلية الطرف المقابل، بما يقطع الطريق على الدعاية الصهيونية بالعمل الفاعل في عقول الشباب الصهيوني، ليكون بمثابة مشروع بعيد المدى، لمخاطبة عقول الشباب العربي، بأسلوب يتماشى مع طبيعة تفكيرهم وتسارع الأحداث في الشكل والمضمون، ويعزّز فيهم انتماءهم إلى القضايا الكبرى، بدلاً من اتهامهم بترك تلك القضايا في مهبّ الريح. وما يجري على الأراضي المحتلة من عمليات وحجم التضامن الشبابي في العالم العربي، يؤكد أنّ جيل الشباب متمسِّك بقضيته، وما يريده بكلّ بساطة خطاب يحاكي عقله لنصرة تلك القضية، لا أن يصرّ على خطاب خشبي تحت شعارات القضية الكبرى التي لم يتخلّ عنها يوماً من الأيام… ولن يفعل.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى