العاشق الدمشقي

أبداً يعتبر ياسين رفاعية واحداً من كبار كتّاب القصة والرواية عربياً. أديب وشاعر بالفطرة، ولد في دمشق في حي «العقيبة» عام 1934، اختار لبنان مبكراً مكاناً للعمل والإقامة، وعلى رغم انشغاله في «كتابات العيش»، فإنه كان يجد الوقت لإنجاز عمل روائيّ بين فترة وأخرى، وكان أول كتاب نشر له صدر عام 1960 بعنوان «الحزن في كلّ مكان» عبَّر فيه عن قسوة الحياة التي عاشها منذ أن كان في الرابعة عشرة من عمره حين ترك الدراسة، والتحق بالعمل الشاق في فرن والده. وهناك لم يشوِ ياسين رفاعية الخبز والكعك فقط، إنما شوى قصصه على نار هادئة، كُتب عليها أن تُنضج كل ما هو جميل ومميز.

ياسين رفاعية الذي لم يكمل دراسته في المدرسة أكملها في مكانين اثنين شديدَي الخصوصية والطقسية، الأول: فرن أبيه، حيث كان يستمع لقصص عمال الفرن، ينصت بشغف لقصص عشقهم، ويتألم لألمهم، ويحزن لحزنهم، كانت معايشته لهم إبداعاً من نوع خاص، عرف من خلاله أبرز مقومات القص، وهما: الحياة والناس. أما المكان الثاني: فهو المقبرة، فقد كان يتردد عليها باستمرار، ويلتقي فيها بالقاصّ زكريا تامر، والروائي الفلسطيني يوسف شرورو، يتحاورون في الأدب، ويستمعون لقصة كتبها أحدهم. كان ياسين رفاعية يفرغ ضجيج الفرن في المقبرة حيث الهدوء والإنصات والوحدة المطبقة. ومنها تعلّم فن الصفاء والإصغاء.

بدأ حياته الأدبية بقراءة القصص البوليسية فقرأ «شارلوك هولمز» و«أرسين لوبين»، وقرأ من الأدب الأميركي «همنغواي» و«جون شتاينبك»، كما قرأ كل ما كان يقع تحت يديه من الروايات المترجمة إلى العربية في تلك، الفترة، لذلك نرى أن إبداعه قد تأسس على قراءة الأدب الغربي.

وحول قصته الأولى «ماسح الأحذية» التي حصل فيها على الجائزة الأولى من مجلة «أهل النفط»، و كان يرأس تحريرها الناقد جبرا إبراهيم جبرا يقول ياسين رفاعية: كان هناك شاب صغير يتجول في حيّنا القديم ـ حي «العقيبة ـ حاملاً صندوق البويا، كان شاباً لطيفاً، وعلى وجهه مسحة من الحزن العميق، اقترب هذا الشاب من قلبي كثيراً، وأصبحنا مع مرور الوقت، وفي كل يوم كان يروي لي قصصاً من حياته وحياة أبيه المتوفى، ووالدته العجوز التي ليس لها سواه، وحالة البؤس والفقر المدقع التي كان يعيشها مع والدته… تلك القصص شكََّلت عندي فكرة قصة فكتبتها وكان عنوانها: «ماسح الأحذية»، وأرسلتها إلى المسابقة التي أعلنت عنها المجلة، وفوجئت أنها نالت الجائزة الأولى، وكانت قيمة الجائزة عبارة عن ثلاثمئة ليرة تقاسمتها مع ماسح الأحذية.

لم يكن عمل ياسين رفاعية بالفرن هو المهنة الوحيدة التي عمل بها، بل تنقّل في مهن كثيرة، فعمل عند صانع أحذية «كندرجي»، ثم أخذ يبيع الكعك الذي يصنعه والده في «سينما غازي»، في هذه الأثناء أصرّ والده على إعادته إلى المدرسة، لكن أديبنا كان قد تعوّد على حياة أخرى غير حياة المدرسة متنقلاً بين العمل والكتابة، وبدأ بنشر قصصه في الصحف السورية «الشعب»، «دمشق المساء»، «النصر»، «الأيام»، «الأخبار» مجاناً. وعندما قامت الوحدة بين مصر وسورية كتب مقالاً في صحيفة «دمشق المساء» عبّر فيه عن سعادته بقيام الوحدة، وعن أحلامه وأحلام أبناء جيله بإحساس صادق ومشاعر جياشة، وعلى إثر هذا المقال تمّ تعيينه في المكتب الإعلامي التابع للقصر الجمهوري. وعن هذه المرحلة يقول رفاعية: أصبحت صاحب نفوذ في القصر، فبعد أن كنت أذهب إلى الفرن بالقبقاب! صارت تأتي سيارة القصر وتأخذني من مدخل الحيّ الذي أسكن فيه مع عائلتي، و كنت في الفرن ألبس «الأفرول»، والآن أصبحت ألبس البدلة، وأنتعل الحذاء بدل القبقاب، وقد أصدرت في ذلك الحين مجموعة «الحزن في كلّ مكان» عام 1960. بعد ذلك عمل ياسين رفاعية موظفاً في وزارة الثقافة فأسس مع الأديب فؤاد الشايب مجلة «المعرفة»، وعين سكرتيراً للتحرير فيها 1961 ـ 1965 . سافر بعدها إلى بيروت وعمل في جريدة «الأحد»، وأسس مكتب صحيفة «الرأي العام» الكويتية. وبعد توقف عن الكتابة دام 11 سنة، أصدر مجموعته القصصية «العصافير» التي أحدثت نقلة نوعية في كتابة القصة العربية، وقد طُبعت هذه المجموعة أربع طبعات متقاربة زمنياً.

عاش ياسين رفاعية زمن الحرب الأهلية اللبنانية بظروف صعبة، تعرّض فيها للخطف، وبعد الغزو الصهيوني للبنان غادر إلى لندن، حيث عمل مسؤولاً ثقافياً في مجلة «الدستور»، ثم انتقل إلى جريدة «الشرق الأوسط» حتى عام 1996، عاد بعد ذلك إلى بيروت مستقراً و متفرّغاً للكتابة. وإضافة إلى الترحال الدائم، وشظف العيش الذي عانى منه، مرت بحياة رفاعية أربع فواجع متتالية وهي: وفاة والدته، ووفاة والده، ووفاة زوجته، ووفاة ابنته. الحرب اللبنانية أثرت الحرب اللبنانية التي استمرت سنوات طويلة في تكوين ياسين رفاعية الأدبي فكانت مادة خصبة للكتابة، ويعتبر رفاعية الكاتب الوحيد الذي كتب عن الحرب اللبنانية الأهلية أربع روايات، وكل رواية تناولها من زاوية مختلفة عن الأخرى، وإن كانت في الحقيقة تكمل بعضها. من «رأس بيروت» إلى «الممر» و«امرأة غامضة» وصولاً إلى «دماء بالألوان». وقد أثارت لغته في رواية «امرأة غامضة» الكثير من النقاد الذين كتبوا عنها بأنها رواية شعرية بامتياز، هذه اللغة التي اكتسبها من خلال كتاباته الشعرية، التي تمحورت حول موضوع واحد وهو «الحب، ولا شيء سوى الحب».

غادر ياسين رفاعية دمشق وحاراتها العتيقة، إلا أنها ظلت تسكن بداخله يستعيد في كتاباته عنها طفولته ووقع شبابه، فكتب «مصرع الماس» التي تناول فيها مرحلة من طفولته المبكرة، حيث اكتنزت ذاكرته بالأحداث المتشابكة في دمشق الأربعينات، تحدث فيها عن «قبضايات الشام» «أبو عبدو الطويل»، و«أبو علي الماس». هؤلاء الرجال بلباسهم العربي الشعبي الكامل، وأخلاق أولاد البلد الذين يؤمنون بالشرف، شرف الوطن الذي لا يكون إلا بتطهيره من الاستعمار، لكنهم كانوا بنظر السلطة الاستعمارية مجرمين وقطاع طرق، هؤلاء هم أبطال روايته. «فالماس» كان مجرماً بنظر السلطة، لأنه قتل يهودياً يتجسس على رجالات الثورة، و«أبو عبدو الطويل» قتل ابنته لأنها أقامت علاقة مع ضابط فرنسي، وحكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات. أما في روايته «أسرار النرجس» فنراه يجوب عالم «المحرّم المكرّس» في دمشق، مخترقاً فيها الثوابت المتحجرة، واصفاً أزقتها وبيوتها المتلاصقة، وما تخفيه من أسرار خلف جدرانها العالية، من علاقات اجتماعية بين أفراد الأسرة الممتدة، بأسلوب شفاف لا يخلو من القساوة، قساوة المدينة ومناعتها في دمشق الستينيات.

أحب ياسين رفاعية نساء كثيرات، إلا أن حبّه الكبير منحه للشاعرة أمل جراح زوجته التي فقدها باكراً، وبرحيلها يعترف أنه فقد الإحساس بالوجود، الإحساس بأي طعم للحياة، لأنه فقد الحبيبة، والزوجة، والأم. وهو يرى حياته بعدها وقد تحولت إلى فوضى وعزلة وخوف مستمر، ورعب من كل شيء وفي روايته «الحياة عندما تصبح وهماً» يصور علاقته بزوجته راصداً لحظات الفرح والحزن والألم التي جمعتهما، مسترجعاً ذكرياته بدءاً من اللحظات الأولى لعشقه لها إلى أن ارتبط بها، ليروي تفاصيل فرحها، وعلاجها، وعطرها المفضل، وثيابها، وحتى اللقاء الجسدي بينهما. إنها ذكريات رجل عن امرأته التي غادرته بتفاصيل تفاصيلها، والتي لا يمكن نسيانها حتى بعد أن رحلت وتحولت حياته بعدها إلى جمود ورماد.

وفي روايته «وميض برق» يقدّم بطل روايته في شيخوخته، وهو أرمل وحيد، لا أحد معه، حتى ابنه وابنته تزوجا وغادرا بعيداً، فيشعر وكأن شيخوخته «عاهة» لذا نراه يحتجب عن الناس، ولا يغادر شقته، يدور داخلها مسترجعاً ذكرياته بكل ما فيها، لديه وقت طويل ليتذكر، وهذا ما يستطيع فعله. يتمنى الموت ويراه قريباً وبعيداً في الوقت نفسه، وكأنه يمارس معه عمليات شدّ وجذب. إن الفرح نادر في هذه الرواية، كأنها منسوجة من الحزن وله. ورغم التنوع الإشكالي الذي نلمحه في أعماله الأدبية إلا أنه يعترف بأن مشروعه الروائي لم يكتمل بعد، فبذاكرته رواية لم تكتمل موجهة للمجتمع الإنساني الذي أصابه الجشع وتضارب المصالح والمال الذي يسود على كل شيء. والعالم برأيه عالمان، عالم الأغنياء الذين يموتون من التخمة، وعالم الفقراء الذين يموتون من الجوع.

وزارة الثقافة السورية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى