النصوص المسرّبة حول الدستور السوري أشدّ فتكاً وتدميراً من الحرب الإرهابية

د. رائد المصري
لا بدّ من القول إنّ الأدوات الاستعمارية الغربية الأكثر فظاعة في نشر الخراب في البلاد العربية، ونقصد هنا التنظيمات التكفيرية الإرهابية المسلحة، قد نجحت حتى اليوم بتمثيل الاستخدام الأفضل في تنفيذ المشاريع التي تدكّ أوطاننا وتفتّت النسيج المجتمعيّ لدولنا…

ونرى هنا بالتحديد ما تنحو إليه الأزمة السورية بعد أكثر من خمسة أعوام على بدئها، حيث بتنا نرى السيناريوات التجريبية السياسية منها والعسكرية والتي يستخدمها الغرب الاستعماري على ما يبدو كبالونات اختبار لجسّ النبض وقياس المزاج الشعبي والوطني وردود الفعل على كلّ سيناريو أو برنامج.

روسيا التي تؤازر سورية عسكرياً ضدّ الإرهاب، ترى مصالحها الاستراتيجية في الحفاظ على الدولة السورية ووحدتها، لكنها قد لا تستطيع فرض المفهوم القومي للدولة السورية وغيرها من دول المشرق وحمايته وتكريسه كنموذج. في حين أنّ التجربة البراغماتية الأميركية على مدى أجيال وعقود الحنكة نجحت في تكريس وقائع حتى تلك التي نستهجن ونستنكر ونستنفر بوجهها.

وهنا نرى أنّ كلّ ما يجري من لقاءات في فيينا وجنيف من مفاوضات ماراتونية مضيعة للوقت، لكن اللافت أنّ هناك أموراً خطيرة تطفو على السطح وتتمثل بتسريبات لأفكار وطروحات حول مستقبل سورية، مفاعيلها أخطر من الحرب التي تشنّ على هذا البلد. وهذا هو التحدي الأصعب الذي لا بدّ من مواجهته.

إنّ ما تمّ تسريبه مؤخراً من صياغة لدستور جديد للدولة السورية واعتباره خارطة حلّ تحدّد مستقبل سورية وهويتها المقبلة وشكل نظامها حتى الذي لم نتعوّد أو لم نرد أن نسمع به ونعايشه، تسريب يجدر التوقف عنده، مع الأخذ بما أعلنته الرئاسة السورية من أنّ أمراً كهذا لم يُعرَض عليها، وما أعلنه الرئيس الروسي في اليونان من أنّ روسيا لا تقوم بحلّ المشكلة الكردية في سورية، باعتبار أنّ هذا الأمر من شأن حكومات البلدان التي يعيش فيها الأكراد.

إنّ قراءة أولية ونقدية للتسريبات حول الدستور الذي سيحكم سورية، وبعيداً عن اللغات الخشبية التي يتعوّد عليها ويتحفنا بها المنبهرون بالنيوليبرالية وقواها المالية والاقتصادية الناهبة لثروات الشعوب، كلّ الشعوب على وجه الأرض، في رفض صيغ التعديلات والتعدّديات والصلاحيات والتقرّب من الحوامل الأيديولوجية والشمولية التي أثبتت فشلها، بحسب ما يزعم المنبهرون هؤلاء، فلا بدّ من الإشارة والقول حتى لا نتّهم بالتقصير والهرب والتململ في ما ورد ويرد حول تغيير الدستور والصلاحيات الرئاسية في سورية ونزع معظمها التشريعية منها والتنفيذية…

قد يكون جائزاً الاتجاه إلى توسيع نطاق اللامركزية لتسهيل الحكم والتنمية، لكن الحديث عن تغيير هوية سورية العربية وتحويلها دولة فيدرالية ترسم حدودها وفق ما يسمّى الاعتبارات العرقية والطائفية وتُعزل نهائياً عن محيطها العربي، كذلك عدم مشاركة جيشها في أيّ حروب خارج الأراضي السورية، وهي بالتأكيد إشارة إلى الكيان الصهيوني، فهنا الطامة الكبرى.

كذلك الحديث في تعديل قوامه المساواة الكاملة بين اللغتين العربية والكردية كلغتين رسميتين للدولة… فهل يكون ذلك مقدّمة للانفصال التدريجي لاحقاً؟ وهل دور القوات الكردية في الشمال السوري والرقة وكذلك الموصل سيكون من دون أثمان؟

والحديث هنا، يدفعنا للتدقيق في اعتماد نظام اللامركزية كأساس للحكم وإعطاء الصلاحيات الموسّعة لما يسمّونه برلمانات المناطق أو إدارات المناطق عليها. وإلغاء صيغة مجلس الشعب واستبدالها بجمعية الشعب، وهنا ما زلنا على طريق الاستعراض لما يتمّ تحضيره لهذه الدولة التي ملأت الدنيا وشغلت العالم، وجعلت أدواته البحثية واستثماراته المالية العملاقة تعمل دون كلل من أجل استباحة الأرض والدولة البكر. لتجعل من القرارات السيادية والمسؤولية التي يحملها الرئيس بحسب الدستور الجديد هي مهمة الوساطة بين الدولة والمجتمع وبدون أيّ سلطات تشريعية وأن تحصر سلطاته التنفيذية بالتشاور مع البرلمانات أو ما يسمّونه الجمعيات المناطقية.

تعيين مناصب نواب رئيس الوزراء والوزراء بالتمثيل النسبي على قواعد طائفية وعرقية لسكان سورية، وتكريس بعض المناصب للأقليات القومية والطائفية، أيّ تكريس المحاصصة الطائفية.

«التأكيد على الاقتصاد الحر» وحرية النشاط الاقتصادي والالتزام بمعايير السوق الحرة وإلغاء جميع معايير الاشتراكية، بما فيها دعم السلع الضرورية وتحديد الأسعار ومنع الحماية للمواطن الفقير أمام التوحّش الرأسمالي المعولم.

يكرّس النص المسرّب مبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية على حساب الهوية الوطنية السورية الجامعة الموحّدة واستبدالها بهويات طائفية عرقية، ويحرم سورية من أيّ دور في مواجهة المشروع الصهيوني العنصري المحتلّ في فلسطين وسورية ولبنان، إضافة إلى ذلك، فعلى ما يبدو أنّ هذا السيناريو المرسوم لسورية الجديدة هو نفسه الذي جرى تطبيقه لدولة العراق التي تحوّلت دولة فاشلة وهشة وضعيفة، ومفككة، يتقاتل أبناؤها، وغير مستقرة، ودون أيّ هوية وطنية جامعة موحدة وإلى الآن.

إنّ التمعّن في قراءة جدية وموضوعية للصيغ التي سرّبت حول ما يُقال إنه الدستور الذي سيحكم سورية، يكشف عن طبيعة الخطر الكبير الذي يتهدّد الدولة السورية… إنه خطرٌ أكبر بكثير من خطر الإرهاب والتطرف.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى