عش رجباً… ترى عجباً!

د. سلوى الخليل الأمين

لقد انتهت الانتخابات البلدية والاختيارية في لبنان على خير دون أيّ حادث أمني يذكر، لكن النتائج لم تكن بحجم التوقعات من حيث نسبة المقترعين ومفاجآت النتائج، حيث أظهر أهل الشمال، خصوصاً في العاصمة طرابلس، أنهم قادرون على قلب التوازنات حتى لو تزعّمها حيتان المال، وأنّ صوت المعاناة يبقى هو الأقوى عند الطبقات الشعبية المقهورة، وعند البعض الآخر من الطرابلسيّين، الذين التزموا بيوتهم نظراً لعدم حضور الحافز الوطني المشجع لهم للمشاركة في الانتخابات، والأسباب باتت واضحة وربما مقروءة في أجندات السياسيين مستقبلاً.

فلو أعدنا النظر عبر عمل دراسة ميدانية للواقع المؤذي المفروض على الشعب اللبناني، بمختلف أطيافه وطوائفه ومناطقه، لوجدنا انّ الطبقة السياسية الحاكمة الملوّثة بالفساد والإفساد، ما زالت مدانة ومسؤولة عن تحرك أولئك المواطنين، الذين تجشموا عناء الذهاب إلى بلداتهم وقراهم من أجل وضع لائحة المرشحين الذين تمّ اختيارهم من قبل الأحزاب الحاكمة، دون أيّ استفتاء جماعي للناس أو تواصل مع من يلزم منهم، بالإضافة إلى أنّ هذا الفعل لا يمكن أن يرضي أصحاب العقول النيّرة والضمائر الحية، لأنّ مسألة تطويع أصوات الناس لمصالح ذوي الأمر، تارة بالمال المستورد، وتارة بالوعود البراقة التي لا تنفذ، دون أيّ اعتبار لكرامات الناس ومعاناتهم المستدامة، ينتج حتماً حالة معكوسة، لا تصبّ في صالح ذوي الشأن والشأو. حيث في النهاية ليس المهمّ من وضع صوته في صندوقة الاقتراع، بقدر كم من أصوات المثقفين والمتنوّرين والفقراء المقهورين صبّت في الصناديق مؤيدة للوائح المركبة من قبل أركان أصحاب السلطة وحيتان المال؟ والنتيجة ظهرت بوضوح، وكانت مفاجأة الموسم الانتخابي الطويل.

هنا ربما من المستحبّ على من يتحمّل المسؤولية إعادة الحسابات، من أجل استقطاب العديد من اصحاب الرأي المعرفي الحرّ، البعيد عن الطائفية والمذهبية، المتطلّع إلى الإنماء والتطوير من منطلق وطني محض، بعد النجاح المدوّي للوائح الحزب السوري القومي الاجتماعي في الكورة وعكار وبعض مدن وبلدات الشمال، حيث لم يذهب مناصرو هذا الحزب العلماني إلى صناديق الاقتراع إرضاء لزعيم سياسي يملك المال والسلطة، وإنما بهدف وطني غايته التطوير والإنماء والنهوض الوطني، يقابل هذا الفعل تخاذل الناس اللامنتمين إلى الأحزاب الوطنية العلمانية عن المشاركة في الانتخابات بسبب القرف من السياسات العرجاء المتمدّدة بالطول والعرض على مساحة الوطن، بحيث أنّ مسؤوليها لم يحسنوا استقطاب الناس بالخدمات الرعوية المطلوبة لأمنهم وأمانهم واطمئنانهم إلى العيش الكريم في وطنهم، علماً أنّ هؤلاء الناس هم من يشكلون العصب الأقوى في الوطن، لأنّ هذه الفئة من الناس همّشت بأساليب عديدة ومختلفة لمجرد أنّ لها رأيها المختلف عن رأي المسؤول أو من هم في السلطة.

لهذا يبقى المواطن اللبناني المغلوب على أمره قادراً على المواجهة، أما الساسة في لبنان فهم من وضعوا أنفسهم في دائرة الوهم الكبير، حين الظنّ أنّ المال هو السلطة القادرة في كلّ الأوقات على إخضاع ضمائر الناس، والتغاضي عن إدراك لقمة العيش الدائمة لهذا المواطن، الذي يعاني من الحدّ الأدنى المتدني للأجور التي لا تسدّ الرمق والتي سبّبت نقطة الحسم في انتخابات طرابلس التي قلبت كلّ التوقعات وأسقطت الأحجام الكبيرة.

هذا لجهة الانتخابات ومعاناة الناس التي تمظهرت قرفاً أيضاً، في الجانب الآخر من المشهد السياسي الاجتماعي الذي ارتفع مؤخراً عبر حفلات الزفاف الأسطورية لأبناء وبنات المسؤولين، من حيث اختفاء ورق الغار المرشوش تحت أقدام المدعوين من محلات العطارة، وباقات الزهور المحلية والاستعاضة عنها بالمستورد، إضافة إلى كميات الشوكولا التي تطعم بلدات بحالها، دون أيّ اعتبار لمن يرصد ويراقب من أصحاب البطون الجائعة والمحرومة، ودون أن ترفّ أجفان القائمين بالفعل من أصحاب الشأن، واحتساب نظرات المحتاجين والفقراء والمغبونين والقابضين على بطونهم، الذين تحسبهم أغنياء من التعفف، وهنا ربما علينا التذكير بالقول: فعلاً اللي استحوا ماتوا، ثم أين هو قانون من أين لك هذا؟ الذي يكشف المتورّطين فعلاً بالفساد ويبرّئ المتهمين.

لقد ارتفعت الأصوات من كلّ جانب، في الوقت الذي يعلم الكلّ أنّ راتب الموظف والعامل لا يكفي حتى آخر الشهر، بسبب تأدية الرسوم والضرائب كاملة غير منقوصة إضافة إلى فواتير الماء والكهرباء والهاتف المضاعفة، لهذا من الواجب طرح السؤال التالي: ماذا تعني حالات البذخ التي يظهرها أهل السلطة عبر نسائهم وأولادهم، وحفلات الزفاف الأسطورية، والولائم الباذخة المستمرّة في زمن الشحّ الذي يطاول كلّ شرائح المجتمع اللبناني، إلا هم… هم المتمسكون بالسلطة مع عائلاتهم والعديد من الأثرياء الذين غابوا عن الوطن في أثناء الحرب الأهلية، ومن ثم عادوا في حالة السلم كي يقنصوا المواقع العالية في السلطة بفتات أموالهم، هؤلاء حتماً لا يستطيعون إدراك حجم المعاناة التي أدركت الصامدين على الأرض من أبناء الوطن، بمختلف فئاتهم من موظفين وعمال وتجار صغار ومزارعين وطلاب لا حول لهم ولا حظ بتلقي العلم في الخارج السعيد، حين أثرياء السلطة والزمن الجديد جعلوا همّهم الوحيد الحصول على الرئاسات والوزارات والنيابات كي تزداد ثرواتهم ويزداد شجعهم، دون مبالاة بنظرات االمحتاجين، حتى الشرفاء منهم، الذين هم في أعلى الرتب الوظيفية والعمالية ناهيك بأدناها حرماناً وفقراً.

بعد كلّ هذا لا يخجلون من إغلاق أبواب قصورهم في وجه النخب، وفتحها فقط لأصحاب الجيوب المتخمة بالمال، علماً انّ تلك القصور هي ملك للناس ومن مال الناس، أيّ للشعب، الذي منحهم وكالته من أجل صون حقوقه لا هدرها على مكتسباتهم الخاصة وملذاتهم وأفراحهم، وحتى أتراحهم أيضاً، حين المواطن الشريف أصبح لا يملك ثمن مدفن يضمّه بعد انقضاء العمر، وهذه مصيبة المصائب التي يعاني منها العديد من أشراف الناس الذين باتوا من فقراء الوطن. هذا الفعل الفاضح حمّس المواطن اللبناني على الاطلاع على قيمة رواتب المسؤولين المنشورة عبر الأنترنت، وهنا الدهشة الكبرى حين قيمة رواتبهم ومخصصاتهم لا تكفي إطعام عدة عناصر من حاشيتهم! أترى ما الذي يحصل؟ وكيف؟

أليس هي سرقات واضحة في عزّ النهار، ودون خوف أو خجل؟ ثم ما حكم من يهدر المال العام أو يتصرّف به لمصالحه الخاصة؟ هذا لمنطقته وذاك لبلدته، وآخر لمن هو قريب منه وهكذا دواليك! حتى هدايا ملوك الدول وزعمائها والهبات والعطايا التي تمنح باسم الشعب يتمّ وضعها في حساباتهم الشخصية في المصارف، عوض إدخالها في خزينة الدولة، لأنها للشعب وباسمه، وليست حقاً لمن ولي الأحكام، يتصرف بها على هواه وذممه الواسعة والفضفاضة، فالقانون يمنع استغلال الموقع الرسمي للإثراء غير المشروع… لهذا اقتضى التنويه ووجوب المحاسبة والتيقظ.

لهذا كله وهذا غيض من فيض، أنتج رفض العديد من المواطنين اللبنانيين التعاون معهم في الانتخابات البلدية بحيث لم تتجاوز النسب الـ50 ، وهذه علامة استفهام كبرى عليهم إدراكها إذا ما أرادوا بناء لبنان على أسس وطنية، لا تسقط من أجنداتهم نضالات ومعاناة القوى الوطنية والعلمانية وأهل الفكر والقلم وكلّ من يجاهد في سبيل العلم والعمل. ثم أليس مشيناً بعد كلّ ما فعلوه بالناس، ألا ينتبهوا إلى تقييم أساليبهم في الطلب من الناس الإقبال على الانتخابات، حين البيوت فارغة من أبنائها المنتشرين في ديار الله الواسعة، وحين الأمهات يذرفن دموع الحسرة على خلوّ منازلهن من بهجة الأولاد والأحفاد، الذين هاجروا إلى ديار الانتشار، هرباً من وطن، فسدت به الطبقة الحاكمة، وأصبحت الوظائف تشرى بالمال، بعد أن يتمّ طرحها في سوق المزايدات لمن باستطاعته دفع المزيد، كما كان يحصل في العهود العثمانية البائدة.

إضافة إلى انّ مرحلة التقاعد في وطننا تعني مرحلة الفقر المدقع والاستجداء وتراكم الديون وعدم التمكّن من دفع متطلبات الدولة من ضرائب وفواتير مفروضة وغيرها من المستلزمات الضرورية، ناهيك أنّ أيّ موظف مهما بلغ مركزه حالياً، لا يستطيع بناء منزل في ضيعته الجبلية، حتى لو كان في مرتبة عالية، فكيف بالبعض من الموظفين النافذين ترتفع قبب فللهم الفخمة في ضيعهم، وراتبهم لا يتجاوز الـ3 ملايين ليرة لبنانية في الشهر دون أيّ سؤال من أين لك هذا؟

لو قيّض لكلّ مواطن لبناني كشف المستور، لقيل انّ الفظاظة مهنة جديدة أو مستوردة، على القلب، لكن من واجب كلّ مواطن أن يكون خفيراً، ومن حقه المطالبة بحقوقه التي يصونها الدستور، كما عليه تسليط الضوء على كلّ الشواذات التي تنتشر في الوطن دون حسيب أو رقيب، وهنا لنعد إلى السؤال: أين مبلغ الـ11 مليار دولار التي ذهبت هدراً من الخزينة اللبنانية دون قطع حساب واضح؟ نسمع كلّ فترة عن المحاسبة والمطالبة ثم يتمّ الصمت! أليست هي سرقة موصوفة في القانون اللبناني؟

فيا سادة الوطن يجب أن تعلموا انّ الكيل قد طفح، وانّ صبر الناس له حدود، وانّ البسكويت في لبنان أصبحت أسعاره مرتفعة، وكلّ من يعش رجباً في هذا البلد يرى العجب العجاب، والشاطر من يتنكّر زائراً محلات السوبر ماركت مستكشفاً ارتفاع أسعار المواد الغذائية الضرورية كلّ أسبوع، حيث الأسعار على ارتفاع مستمر، والمطلوب بل الضروري قبل طرح شعارات الإنماء عنواناً للانتخابات البلدية، تأمين لقمة العيش للناس بكرامة قبل أن يسبق السيف العزل.

رئيسة ديوان أهل القلم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى