في مئوية سايكس بيكو… هل يتكرّر مجدّداً؟

رامز مصطفى

ما يستوقفك في شهر أيار أنه من بين أشهر العام المثقل بأحداثٍ وتحوّلات جدُّ هامة وخطيرة، كان لها وقعها على الواقعين الدولي والإقليمي. تلك الأحداث التي أعادت رسم وفك وتركيب لمجمل أوضاع المنطقة بأبعادها السياسية والاقتصادية والجغرافية، وقف اتفاق «سايكس بيكو» في أولويات تلك الأحداث الكبرى، هذا الاتفاق الذي وقع في أيار من العام 1916، أيّ قبل مائة عام من الآن. هذا الاتفاق الذي أتى على قسمة تركة الإمبراطورية العثماني بين فرنسا وبريطانيا، التي ومن موقع أنها قوة الانتداب على فلسطين، قد منحت فلسطين لليهود بموجب وعد بلفور في الثاني من تشرين الثاني من العام 1917، أيّ بعد عام من اتفاق سايكس بيكو. هذا يقود إلى القول إنّ زرع الكيان الصهيوني الغاصب في فلسطين، كان يستلزم وكممرّ إجباري تقسيم المنطقة، وخاصة الموجودة على التماس مع الأرض الفلسطينية. وهذا ما تمّ فرضه بقوة الحديد والنار والمجازر التي ارتكبتها عصابات الهاغاناه وشتيرن والأرغون بحق الفلسطينيين في قراهم ومدنهم مقدّمة لتنفيذ جريمة العصر في الخامس عشر من أيار في العام 1948، والمتمثلة في اقتلاع وطرد ما يزيد عن 800 ألف فلسطيني من ديارهم وهم أصحابها الأصليين إلى دول الجوار الفلسطيني.

واليوم وبعد مرور 100 عام على اتفاق « سايكس بيكو»، وعلى وقع ما تشهده المنطقة منذ خمس سنوات من أحداث خطيرة، يعيد للأذهان مجموعة من التطورات التي سبقت تلك الأحداث تؤكد على أنّ ما نعايشه من مشهد بحور من دماء شعوب المنطقة، كانت التحضيرات اللازمة لها. وما كانت الإدارة الأميركية قد روّجت وسوّقت إليه عن أنّ المنطقة مقبلة على شرق أوسط جديد، وتحديداً خلال العدوان «الإسرائيلي» على لبنان في تموز من العام 2006، حيث جاهرت آنذاك رئيسة الدبلوماسية الأميركية الوزيرة كونداليزا رايس في تصريح لها تعليقاً على الحرب، في القول: «إنّ ما يشهده لبنان، هو مخاض لشرق أوسط جديد». وعندما فشلت «إسرائيل» في عدوانها وانتصرت المقاومة، انتقلت الإدارة الأميركية وحلفاؤها وأدواتها إلى الخطة البديلة في قلب الأوضاع في المنطقة وتحديداً في سورية، بعد أن فشلت أيضاً سياسة الاحتواء التي مارستها العديد من الدول الإقليمية وبعض الدولية لسوريا وقيادتها، في فك الشراكة بينها وبين إيران وقوى المقاومة في لبنان وفلسطين. وكان قد سبقها قبل عدوان 2006، القرار الشهير 1559 والصادر عن مجلس الأمن الدولي حول سلاح حزب الله والسلاح الفلسطيني في لبنان، لتتلوها جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وخروج القوات العربية السورية، وما تبعها من شحن واصطفاف مذهبي غير مسبوق في لبنان، وتحريض مرتفع السقف ضد سورية والمقاومة في لبنان واتهامهما بأنهما يقفان وراء عملية الاغتيال.

وهنا يبرز السؤال مع المئوية الأولى لـ»سايكس بيكو»، هل نحن أمام اتفاق جديد بعد استنفذ الاتفاق الفرنسي البريطاني في أيار من العام 1916 أغراضه؟ والتي بتقديري قد تمحورت في تجزئة الوطن العربي، وزرع الكيان الصهيوني في فلسطين، ووضع اليد على مقدرات المنطقة من نفط ولاحقاً الغاز. وهذا ما تقاطعت عنده الكثير من المقالات والأبحاث الصادرة عن مراكز الأبحاث الدولية، ومنها أكد أنّ المنطقة ستشهد على تقسيم المقسّم وتجزئة المجزأ، وهذه المرة على أسس طائفية وعرقية واثنية ومذهبية. وهناك من دحض هذا السياق في أنّ أحداث المنطقة ستنتهي في تقسيم دوله بما فيها دول الخليج العربي وصولاً إلى أفريقيا، ولكن في ذات الوقت أكدوا على أنّ بقاء الحدود المصطنعة والتي جاء بها اتفاق «سايكس بيكو»، لا يعني أنّ الحكومات المركزية ستبقى قائمة. وإلى حين توافق القوى المؤثرة في أحداث وحروب المنطقة ستقرّر الكيفية في إدارة الحكم في هذه المنطقة.

وإنْ كنت أميل للرأي الآخر، وهو أنّ المنطقة ليست مقبلة على «سايكس بيكو» جديد، وإنْ كانت الأوضاع قد لا تعود برمّتها إلى سابق عهدها، أيّ قبل اندلاع تلك الأحداث والحروب الطاحنة. وما يدفعني إلى القول إننا لسنا أمام تقسيم جديد للمنطقة، أنّ هناك قضيتين لا تزالان الشغل الشاغل للمجتمع الدولي، وإنْ إحداهما تتقدّم الأخرى بأشواط، وهما القضية الفلسطينية والكردية. وهنا يكمن السؤال المحوري، وهو هل الواقعين الدولي والإقليمي باتا على قناعة بأحقية الفلسطينيين والأكراد بأن تكون لهما دولتان في التقسيم الجديد؟ المواقف جدُّ متباينة من هاتين القضيتين، إلى درجة لا يستطيع المرء معها تصوّر تناقضاتها، أو ما هي المعايير ليقبل بتلك ويرفض الأخرى، والعكس هو الصحيح…

أانطلق إلى القول إنّ الدول أو القوى التي تؤيد قيام دولة كردية بموجب التقسيم الافتراضي للمنطقة، فقط الكيان الصهيوني من خلفية أن يبرّر لنفسه «مشروعية» اغتصابه لفلسطين، وتثبيت كيانه على أنه «دولة طبيعية» في الواقع الإقليمي الجديد، وهنا لا زالت الإدارة الأميركية غير حاسمة في موقفها من تلك الدولة على الرغم أنها تقف مباشرة وراء الدعم العسكري لما تسمّى «قوات سورية الديمقراطية»، وهي كردية. وباقي الدول وتحديداً الإقليمية وعلى وجه الدقة تلك الدول التي ترى أنّ الدولة الكردية ستكون على حسابها، وهي تركيا وسورية والعراق وإيران، وهي دول لها القول الفصل أقله إلى الآن! أما الدولة الفلسطينية العتيدة، فهي وإنْ كانت تحظى بتعاطف قوي عربياً وإسلامياً وحتى البعض الدولي من خارج الدول التي تؤيد تقليدياً القضية الفلسطينية، ولكن الكيان الصهيوني ومن خلفه الإدارة الأميركية تقفان عائقاً أساسياً في وجه إقامة دولة فلسطينية وإنْ منزوعة السيادة، على الرغم من الموافقة اللفظية من حلّ الدولتين الذي أكلت وشربت عليه كلّ سياسات حكومة الكيان برئاسة «نتنياهو» من تهويد واستيطان وحصار واعتقالات ومحارق وإعدامات بحق أهلنا وأرضنا ومقدساتنا. وبالتالي هل الدعم العربي لا يزال على راهنه من تأييده لقيام دولة فلسطينية، مع التبدل الواضح حدّ السفور في علاقات أغلبيتها مع «إسرائيل»؟ بعد أن استبدلت تلك الدول أولويات الصراع وغيرت وجهته، لتصبح إيران العدو و»إسرائيل» هي الصديق الذي من الممكن الاعتماد عليه في شدائد تلك الدول، وبأنّ مالهم مقابل العقول «الإسرائيلية» قد تصنع المعجزات في المنطقة. وعليه من يضمن أنّ هذه الدول المؤثرة بقوة البترودولار أنها ستغيّر تأييدها للدولة الفلسطينية، مع كثرة الحديث عن تطبيع آخذ بالتطور الغير مسبوق لتلك الدول مع الكيان، وما الحديث عن استعداد تلك الدول إلى إعادة النظر في المبادرة العربية التي أقرّت في قمة بيروت العام 2002، إلاّ الدلالة في التأكيد إلى ما ذهب إليه نتنياهو «أن علاقات كيانه مع الكثير من الدول العربية تؤسّس لمرحلة جديدة وأفق جديد في علاقات دول المنطقة».

مما تقدّم لا أرى وأقله إلى الآن كما أسلفت أنّ تقسيماً جديداً للمنطقة هو في طور التنفيذ، لأنّ ذلك أيضاً لن تنجو منه دول لم تشهد حروباً مباشرة على أراضيها، سواء الإقليمية أو الدولية منها. وسأفترض أن الجميع توافق على التقسيم مجدّداً، من يضمن لتلك الدول أنها ستكون هي أيضاً ملزمة أن تدفع من أراضيها أجزاء واسعة على أساس الفرز الطائفي أو المذهبي ومن تلك الدول السعودية وتركيا وإيران ومصر وليبيا والجزائر ولبنان وحتى السودان الذي شهد تقسيماً منذ سنوات بين شماله وجنوبه الخ… ومن يقول حينها إنّ بعض الدول الأوربية ستنجو من هذا التقسيم والتجزئة في ظلّ تنامي النزاعات القومية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى