السعودية بين الشمالَيْن وعلوش وريفي

ناصر قنديل

– تتسارع الأحداث في الملفات المتشابكة في المنطقة وتقدّم الاستحقاقات فرصاً لبلورتها، وهذا ما يظهره التفاعل السعودي مع المشهدين اللبناني والسوري، وفي خلفيتهما سلوكه اليمني الذاهب للتسوية، بينما تتباين مواقفه على الساحتين السورية واللبنانية وفقاً لمقتضيات الحفاظ على الأوراق الضرورية لحجز مقعد تفاوضي، أو إحراق الأوراق التي انتهت صلاحيتها. فبينما تعلن الأوساط الأممية عن تبلور صيغة تشكيل مجلس عسكري موحّد ومحايد بين الفريقين اليمنيين يتولى إعادة توحيد الجيش بوحدات تتولى المدن بدءاً من صنعاء وعدن وتتسلّم أمنها والسلاح كصيغة تطبيقية للقرار الأممي ونقطة انطلاق للتسوية السياسية وتشكيل حكومة تمهيداً لدستور جديد وانتخابات رئاسية وبرلمانية، يقدّم المشهد السوري صورة استقالة ممثل جيش الإسلام المسمّى «كبير المفاوضين» للمعارضة في جنيف، ويقدّم المشهد اللبناني نهاية دراماتيكية لزعامة الرئيس سعد الحريري في انتخابات الشمال، القلعة الشعبية والسياسية لزعامته، وظهور الوزير أشرف ريفي وريثاً قوياً لزعامة طرابلس يقود مسؤولي محاور القتال ورموز التطرف.

– في شمال سورية تُطرح الإشكالية الكبرى لمستقبل التسوية السياسية في سورية ومستقبل الحرب على الإرهاب، وفقاً لثنائية، فك الاشتباك مع جبهة النصرة شرطاً لشراكة ايّ جماعة مسلحة في أحكام الهدنة والعملية السياسية من جهة، وتوسيع الوفد المفاوض ليضمّ الأكراد وفصائل المعارضة غير الممثلة فيه. والقضية الراهنة التي يطرحها العنوان تتصل سعودياً بجيش الإسلام، والمطلوب واضح وهو خروج هذا الفصيل المدعوم سعودياً من تحت عباءة النصرة نهائياً، وخروجه من الوفد المفاوض لتسهيل الانتقال للتفاوض المباشر وفقاً لشروط الدولة السورية، وتأميناً لفرصة إعادة تشكيل الوفد المفاوض، فلا يمكن الفصل بين معارك جبهة النصرة وجيش الإسلام في الغوطة من جهة، ولا بين استقالة محمد علوش المسؤول السياسي لجيش الإسلام من منصب كبير مفاوضي المعارضة من جهة أخرى، وبين زيارة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير إلى موسكو، وبين إعلان جماعة الرياض عن بدء الحوار مع الجماعات المعارضة لتوسيع الوفد المفاوض، ما يجعل الحراك السعودي المتصل بالحفاظ على المقعد التفاوضي في سورية مجموعة خطوات للتموضع تحت سقف التفاهم الأميركي الروسي رغم الصراخ المبالغ به عن موقف سعودي قاطع حول مستقبل الرئاسة السورية. وهو أمر يترك للسعودية هامش الصراخ فيه طالما تؤدّي موجباتها المطلوبة عملياً في سياقات العملية السياسية واستئنافها بشروط جديدة، والحرب على الإرهاب ودخولها مرحلة جديدة.

– في شمال سورية تنكفئ السعودية عن دور التصعيد بوجه الاندفاعة الروسية، وتتفادى المواجهة بقدر من التأقلم، ولو الخبيث والمبني على فرضيات المماطلة والرهان على حرب استنزاف تنجح بفرضها جبهة النصرة هناك بدعم تركي عبر الحدود، بينما يبدو وضع النصرة وأحرار الشام ومن معهما يزداد سوءاً، مع تمدّد داعش ونزوحه عسكرياً صوب ريف حلب تهرّباً من خسائر كبرى من قصف أميركي في الرقة، ضمن سياق مواكبة حرب قوات سورية الديمقراطية التي تفترض واشنطن أنها ستجنّبها التعاون المباشر مع الدولة السورية وجيشها في الحرب على داعش، فيسهل انزلاق داعش غرباً هرباً من النار الأميركية مهمة الجيش السوري والحلفاء في حرب النصرة ومن معها بعدما خسروا آخر خطوط إمدادهم عبر الحدود التركية، ليراقب السعوديون حرب الشمال وهم بلا قلق على مستقبل حضورهم في المعادلة السياسية، بينما يحرقون في لبنان الورقة المستهلكة والتي صارت بلا جدوى، التي يمثلها الرئيس سعد الحريري، والتي صارت كلفة الحفاظ عليها أعلى من العائد المرجو منها، بعدما ثبت عجزه عن تلبية مقتضيات المواجهة والتصعيد بوجه حزب الله. وهو العنوان الوحيد المتبقي من الحروب السعودية التي تحظى بالتغطية الأميركية، فتضع السعودية ثقلها وثقتها بالوزير أشرف ريفي بديلاً موضعياً في الشمال، لتنظيم وترتيب بيتها الداخلي الموثوق بعدائه لحزب الله، والقادر على التواصل مع معطيات الشمال السوري، وفقاً لمعادلة أنّ مستقبل لبنان وسورية مترابط ليس بوجود حزب الله على جبهاتهما، وربط انتصاراته بوجه الإرهاب بثباته وميزان ردعه بوجه «إسرائيل» وحسب، بل وفقاً لمقتضيات الأمن «الإسرائيلي» التي يراها الأميركيون على قاعدة، أنّ التحاق شمال لبنان بنموذج شمال سورية وحده يمنع التحاق جنوب سورية بنموذج جنوب لبنان، لأنه ما لم يربك حزب الله في العمق اللبناني، فستربك «إسرائيل» في الجنوب السوري.

– ما جرى في الشمال اللبناني عملياً ينهي أسطورة الحريرية في معقلها الرئيسي ويضعها أمام احتملات التلاشي أو العودة إلى الواقعية السياسية والتأقلم مع القوى التي يتقدّمها حزب الله لصناعة معادلة رئاسية ونيابية تحمي ما تبقى من الحريرية بقوة التحالفات، وهذا يستدعي خروجاً حريرياً من تحت الإبط السعودي لا يبدو منسجماً مع سلوك الحريري وشخصيته، بينما تفتت الحريرية وتوزع ميراثها شظايا لن يقلق حزب الله، خصوصاً انّ خطوط التماس المقلقة من خطر الفتنة لا يطالها الشمال، حيث ينتصر التطرف على حساب الحريرية، التي وفرت لهذا التطرف بخطابها العدائي للمقاومة قدرة امتلاك جمهورها وسحب البساط من تحت أقدامها، بينما صار وزن الناخب الذي تجاهله حلف الرئيسين نجيب ميقاتي والحريري والوزيرين محمد الصفدي وفيصل كرامي، وهو الحزب العربي الديمقراطي بوليصة التأمين للفوز في الانتخابات النيابية بعدما أدّى التجاهل لخسارة البلديات، كما صار الترشيح الرئاسي الحريري للوزير سليمان فرنجية يستدعي كفيلاً للحريري بعد فقدانه السفينة الشمالية، وثبت أنّ فرنجية أشدّ ثقلاً في وزنه الانتخابي من الحريري الذي تصرّف حتى الانتخابات البلدية كزعيم لبنان الأول بقوة حجم كتلته النيابية، وهو ما بات عليه صرفه الآن رئاسياً وبقانون انتخاب يمنح فيهما حزب الله وحلفاءه مكاسب تتيح ضمان مستقبل الحريري الانتخابي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى