نهاية سلطنة الوهم وعاصفة الحزم وإمبراطورية القرم

ناصر قنديل

– ليس مهماً ما يقوله المكابرون والرافضون للقراءة بعيون مفتوحة ما يجري في العالم وما تشهده وستشهده المنطقة. ولا يفيد هدر الوقت والجهد لإقناعهم بأنّ العالم والمنطقة يدخلان مرحلة جديدة، تطوي ربع قرن افتتحه سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي، ونشأت في ظلاله مشاريع تقاسم تركة الرجل المريض، كما جرى بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية وتقاسم التركة العثمانية والألمانية على التوالي، لكن هذه المرة سقطت الامبراطورية السوفياتية بلا حرب، وبلا تحالف متعدّد المصادر ومتناقض الهويات خاض الحرب لإسقاطها، بل نشأ تحالف متجانس بقيادة محسومة لواشنطن لخوض حروب الوراثة، فتشكلت في أوروبا الشرقية ساحة الحرب الأولى عبر يوغوسلافيا، ومنها إلى جوار روسيا، وتشكل في الشرق الأوسط مشروع حرب بدأ في الخليج بحصار العراق بانتظار تنظيف أوروبا من بقايا المرحلة السوفياتية لتبدأ حربان كبيرتان في أفغانستان والعراق، تضعان اليد على موارد الطاقة وممراتها، كما ورد في وثيقة الطاقة الأميركية المقرّة عام 2000 في الكونغرس، ومنطقة العمليات تمتدّ من حوض بحر قزوين إلى الخليج والبحرين المتوسط والأسود، وهي بالمناسبة المنطقة التي أطلق عليها الرئيس السوري دول البحار الخمسة مضيفاً إليها البحر الأحمر.

– شكل الاتحاد الأوروبي الميمنة التي ولدت في كنف هذا المشروع الامبراطوري وحدّد له هدف يترجم الوظيفة المثلثة بحصار روسيا وإخضاعها للحصول على النفط والغاز بأسعار رخيصة وضمان تدفقها السلس، ومنافسة الصين صناعياً بالاستناد إلى اليد العاملة الرخيصة في أوروبا الشرقية والطاقة الرخيصة مقابل التحكم بسعر وتدفق الغاز والنفط إلى الصين، والإمساك بالشرق الأوسط كسوق استهلاك كبرى تقرّر مصير القوى الصناعية. الوظيفة الثالثة هي هذا الإمساك للشرق الأوسط لفرض منظومة أمن إقليمية تقودها «إسرائيل» تساوقاً مع طرح الرئيس «الإسرائيلي» آنذاك شمعون بيريز لـ «الشرق الأوسط الكبير» ومفهوم «إسرائيل العظمى» التي تقود اقتصادياً وأمنياً، وذلك عبر عملية سلام تلبّي الشروط «الإسرائيلية» وتمرّ عبر ضرب المقاومة في لبنان وتطويق وإخضاع سورية وإيران، فتشكل إلى جانب الاتحاد الأوروبي، الثلاثي التركي السعودي «الإسرائيلي»، وتغيّرت الخطط وفقاً لمتغيّرات الحروب المفتوحة والمنفصلة ظاهرياً، لكن المتماسكة في الرؤية الاستراتيجية والممسوكة بقيادة واحدة، لكن بقيت العناوين ذاتها، كيف تنتصر أوروبا في القرم، لأنّ أوكرانيا تختصر مستقبل روسيا ومكانتها وسوق الغاز الأوروبية، وكيف تطلق تركيا مشروعها لعثمانية جديدة تحاكي الموروث الإسلامي بلغة تلاقي الغرب وتتحالف مع «إسرائيل»، وكيف تقود السعودية العالم العربي وتخضع مواقع الممانعة والمقاومة فيه، بقوة تنظيم «القاعدة» وفروعه المتعدّدة، أو بقوة مال النفط وحساباته السائلة والمجمّدة، وإنْ اقتضى الأمر بحروب ردع لتأديب من يشق عصا الطاعة.

– ليست مجرد مصادفة زمنية عبثية، أن يلتقي تعثر «عاصفة الحزم» السعودية في اليمن، رغم تعثر العملية السياسية، وتسليم العالم باستحالة تحقيق السعودية لنصر عسكري حاسم هناك، مع الفشل الأوروبي على أبواب القرم، وتبدّد وهم السلطنة العثمانية، مع تتالي العثرات، من سقوط مشروع الإخوان المسلمين في كلّ من مصر وتونس واليمن وأخيراً، خصوصاً في سورية، وليست مصادفة أبداً أن يتقرّر مصير هذه الأبعاد الثلاثة على ضوء ارتباط مصير الزعامة السعودية والسلطنة العثمانية ومساعي تحجيم المكانة الروسية بالحرب الدائرة في سورية، ولا هي مصادفة أن ترتبط في المقابل خطط الحرب والمفاوضات حول مستقبل المقاومة ومن خلالها مستقبل أمن «إسرائيل» ومستقبل الحرب والتفاوض حول إيران وملفها النووي وضمناً مكانتها الإقليمية، ومثلهما مستقبل الزعامة الروسية وحجم التسليم بشراكتها في السياسات الدولية بهذه الحرب في سورية، حتى بدا أنّ حرب القرم ولدت في سورية بسبب موقف موسكو مما يجري في سورية وعقاباً لها على هذا الموقف وحسمت في سورية بثباتها المضاعف على الموقف، كما هي الحال في ملف إيران النووي الذي جمّدت مفاوضاته على ساعة توقيت التوقعات للحرب في سورية، وأفرج عنه على إيقاع تطوراتها.

– انهيار الاتحاد الأوروبي كمشروع سياسي استراتيجي من بوابة الانسحاب البريطاني، هو انهيار لامبراطورية القرم، بهذه الرمزية لمكانتها في الحرب وقول كلمة الفصل فيها، وسقوط سلطنة الوهم، بالخطوات الدراماتيكية التي يعرف الأتراك أنّ إقدام رئيسهم رجب أردوغان عليها تسليم بسقوط مشروع العثمانية الجديدة وتموضع على ضفاف الدولة التركية الصغيرة قياساً بوهم السلطنة، وإعادة رسم السياسات على الحجم الواقعي، بتطبيع العلاقات مع «إسرائيل» وروسيا والسعي إلى مصالحة مع إيران ومصر، وسورية لاحقاً، كما يقول الإعلاميون والمحللون المقرّبون من أردوغان نفسه على الفضائيات المموّلة من السعودية، بصورة لافتة للمعنى المقصود، ومثلهما سقوط «عاصفة الحزم». علامات نهاية الحرب الامبراطورية التي بدأت في يوغوسلافيا، قبل ربع قرن، وكانت سورية آخر وأقسى ساحات حروبها ولا تزال.

– قليل من التدقيق والتأني في القراءة، سيوصل إلى التثبّت من أنّ تطورات ومتغيّرات كثيرة تشبه ما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية وما بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وتوحيد ألمانيا لقيادة مشروع الاتحاد الأوروبي، لا تزال بالانتظار، وتستعدّ للظهور، ولا تنبئ عن حدوثها، لأننا في قلب الزلزال والطوفان، ومثلهما يحدث فقط دون أن يبنئ بموعد الحدوث وشكله وحجمه ومداه، نحن في البداية فقط.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى