من أسرار الإمام: يوم في السنة لقياس موازين القوى الاستراتيجي

ناصر قنديل

– من علامات العبقرية الاستثنائية لزعيم الثورة الإيرانية الإمام الراحل روح الله الموسوي الخميني، المكانة التي احتلها في عقله ويومياته إطلاق اليوم العالمي للقدس، فمكانة القدس عنده علامة للمبدئية والصدق بالالتزام بفلسطين، لكن الاختيار لتسمية يوم عالمي للقدس وربطه بفريضة دينية هي صيام شهر رمضان، وتحديده في آخر يوم جمعة من أيامه، ومن ثم المكانة التي منحها لرعاية انطلاق هذا الإعلان، والمكانة التي احتلها في يومياته، كانا يلفتان أنظار مَن حوله ومَن يأتون إليه، فلا يكاد يمر يوم أو يُعقد لقاء، يكون للإمام فيه كلمة لا يكون ليوم القدس مكان، فكان إذا استقبل وفوداً علمائية أو شبابية في البلاد الإسلامية أو المغتربات، يختم اللقاء بتوصية خاصة للاهتمام والتذكر، لا تنسوا آخر جمعة من رمضان يوم القدس العالمي باشروا بالإعداد له من اليوم، أياً كان اليوم الذي يلتقيهم فيه، وإذا زار إيران وفد حكومي لبلد إسلامي، أو رؤساء لهذه الدول، التقاهم الإمام وبادر الوفد الإيراني المرافق بالسؤال عما إذا كانت اللقاءات التي أجروها قد تضمّنت بحثاً وترتيباً للتعاون في إحياء يوم القدس، وقبل أن يتلقى الجواب يكون قد دخل في تدفق ساحر وجاذب عن معنى هذا الإحياء وأهميته، حتى يعتقد الزائر أن أهم ما يتوقف عليه تحسين وتطوير العلاقات هو كيف ستحيي بلده يوم القدس المقبل، وفي كثير من الأحيان كان هذا صحيحاً.

– كان تقييم الإمام ورهانه، لا بل يقينه، أن القدس قضية وجدان جمعي تاريخي، وأن الحرب لأجل فلسطين هي حرب عقول وقلوب أولاً وأخيراً، وأن زرع القدس فيهما من جيل إلى جيل وجعلها عنوان المواجهة المفتوحة على مستوى العالم الإسلامي، سيقطع طريق التسويات المذلّة، التي لن تنصف القدس حكماً بسبب مكانتها في المشروع الصهيوني، وسيفتح باب المقاومة واسعاً، وكان غالباً يكرّر، إن الإحياء بالخروج إلى الساحات والميادين والهتاف بموت «إسرائيل» هو الأمثل في هذا اليوم، وإذا تعذّر فعقد لقاءات تشرح مكانة القدس، الدينية والسياسية والتاريخية، وتستعيد مكانتها لدى المسلمين والمسيحيين عبر التاريخ، ومعاناة وعذابات ومظلومية شعب فلسطين. وكان ينصح الشباب في بلدان لا تتيح ظروفها الإحياء السياسي، بالاكتفاء بعقد إفطارات تجمع فيها التبرعات لفقراء القدس كعمل إنساني صرف، لكن من غير الجائز مرور هذا اليوم بلا إحياء، وفقاً لمنهج الإمام الذي يدرك مَن كان قريباً منه كم رفع من مكانة هذا اليوم إلى حدّ الفريضة الدينية، وهو يتّخذه لنفسه موعداً لإحياء متصل بليلة القدر، ذات المكانة الخاصة عند المسلمين.

– كان الإمام يقول لمعاونيه في بدايات إطلاقه للمشروع، إن هذا اليوم يجب أن ينجح في توحيد المسلمين ولو تباين الحكام واختلفت الأحزاب، وأن أي مشروع آخر بما فيه المقاومة، سينجح أعداء فلسطين وعملاء الصهاينة بجعله موضوع انقسام، وسيستخدمون الفتن والألاعيب المذهبية لضربه، لكن إذا تجذّر يوم القدس وصار إحياءً تقليدياً كعيد الفطر وعيد الأضحى، يخرج فيه الملايين في العواصم عبر العالم يهتفون للقدس، شباباً وصبايا وشيوخاً وأطفالاً، يتزنّرون بعلم فلسطين ويتوشحون به ويهتفون للقدس بملء حناجرهم، فإن هذا سيعني نجاحاً تاريخياً لا يُهزَم، فسيكون اليوم وشوارع الإحياء رسالة تبث الذعر والرعب في قلوب الصهاينة، واهم معالم الحرب النفسية في مواجهة سعيهم للتشبث بالبقاء في فلسطين ورمزها القدس، فماذا سيشعر آلاف المستوطنين الصهاينة في القدس عندما يرون عبر العالم ملايين وعشرات الملايين ترفض وجودهم سنةً فسنةً بلا كلل ولا ملل؟ واليوم بالإحياء سيقول للعالم الغربي القابض على السلم والحرب إن لا قيمة لأي توقيع ينالونه من أحد بالتنازل عن القدس، لأن أحداً لا يملك أن يوقف هذا الشلال التاريخي المستمر بالتدفق إلى الساحات والشوارع منادياً بالقدس وعودتها لأصحابها الأصليين، لكن الأهم أن هذه الشوارع ستتحوّل إلى مدرسة تخرج آلاف الشباب والصبايا لرفد حركات المقاومة بهم، ليكونوا الوقود الدائم الذي لا يجف للحرب التي تحتاجهم لتحريرها، وعندما ينجح الإحياء بالتغلغل في فلسطين ويصير تقليداً شعبياً للفلسطينيين، عابراً لانقساماتهم السياسية والجغرافية والحزبية، ولعلاقتهم بإيران، ويملك استقلالية كونه ما فوق الخلاف وأسمى من التجاهل، سيكون العد التنازلي لبقاء «إسرائيل» قد بدأ.

– أيام حياته كان يحرص الإمام أن يتابع بنفسه لحظة بلحظة عبر السفارات الإيرانية والأصدقاء الذين يحدثونه من عواصم العالم، كيف يتم الإحياء في عواصم العالم، ولا يخفي فرحه الشديد كلما سمع بانضمام مدينة جديدة في العالم لمنظومة الإحياء، وعندما تصله أخبار صلاة المسجد الأقصى في الجمعة الأخيرة من رمضان وإحيائها ليوم القدس وحجم الاستعدادات التي يتخذها جيش الاحتلال لقمعها، وتبديد التظاهرات والتضييق عليها، كان يبتسم كفلاح يرى شجرة مميّزة قام بزرعها وهي تنمو. وقد حمل الإمام علي الخامنئي هذا اليوم كوصية محورية لمسؤوليته بعد رحيل الإمام الخميني فتابع خطاه ورعى الإحياء ووسّع منظومته، وجعله محوراً من محاور السياسة الخارجية الإيرانية، وصارت فلسطين هي القبلة والوجهة الرئيسية للعناية في الإحياء، حتى بلغت ما هي عليه اليوم، مئات الآلاف يؤمّون المسجد الأقصى وعشرات الألوف يخرجون في أنحاء فلسطين ومقاومون يستنفرون سلاحهم وسكاكينهم للإحياء على طريقتهم، وملايين بل عشرات الملايين يخرجون في أكثر من مئة عاصمة ومدينة كبرى عبر العالم يهتفون للقدس.

– كان الإمام الخميني يقول سنقيس مدى التقدم في ميزان القوة بوجه «إسرائيل» من خلال هذا اليوم، ثباته وحجم انتشاره، واتساع المشاركين فيه، وتقدّم شكل الإحياء إلى أعمال المقاومة، ومشهد اليوم يقول للإمام لقد صدقت النبوءة وصدق العزم، كما صدقت النية، وميزان القوة بمقياس يوم القدس يقول إن النصر الاستراتيجي لمشروع المقاومة مقبل لا محالة، لكن كما تحارب «إسرائيل» بوجه المقاومة باحتياطيها الذي يشكله الإرهاب التكفيري، تسعى عبره للتشويش على يوم القدس، كما سعت بواسطته من قبل لرسم صورة نمطية متوحّشة للإسلام، يوم نجحت عمليات الحادي عشر من ايلول عام 2001 بجعل الأوروبيين يستبدلون صورة أرئيل شارون كمجرم، بعد اعتدائه على المصلين في المسجد الأقصى بصور أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة، بزيّه ولحيته الإسلاميين، تأتي عملية داعش في عاصمة بنغلادش وما فيها من غرابة لوظيفة واحدة وهي التشويش على هذا الإحياء الجامع والناجح والمذهل ليوم القدس، كمياً ونوعياً في فلسطين وعبر العالم. فهذا ما رصدته «إسرائيل» لقياس ميزان القوة الاستراتيجي في هذا اليوم الذي فرضه الإمام وصار تاريخاً غير قابل لزوال.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى