كيف تتحضّر روسيا للحرب العالمية الثالثة؟.. الأجندة الحربية للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي 2/2

ترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق

في الحلقة الماضية، نشرنا الجزء الأول من التقرير الذي كتبه «The Saker» لـ«غلوبال ريسيرتش»، مسلّطاً فيه الضوء على الترسانة العجيبة التي تملكها روسيا، لا سيما المنظومات الصاروخية، والتي قد تردّ بها على أيّ عدوان يطاولها.

واليوم، ننشر الحلقة الثانية الأخيرة من هذا التقرير ونعيد المقدّمة التي بدأء بها «The Saker» موضوعه:

نشرتُ مؤخراً مقالاً حاولتُ فيه دحض بعض الأساطير الشعبية عن الحروب الحديثة. وإذا حكمنا من خلال عدد من الردود التي تلقيتها حول هذا المقال، فعليّ الاعتراف بأن تلك الأساطير لا تزال حيّة وبحالة منتعشة، وأنني فشلتُ فشلاً ذريعاً في محاولة إقناع قرّائي. وما أنا بصدد القيام به اليوم، هو النظر إلى تصرّف روسيا إزاء التهديد المتنامي لها من الغرب. لكن أولاً وقبل كلّ شيء، لا بدّ لي من تحديد السياق الذي تعمل روسيا به. فلْنبدأ بالنظر إلى السياسات الإنغلو ـ صهيونية تجاه روسيا.

تقويم

لا شيء جديداً فعلاً طرحناه في ما تقدّم، ويدرك قادة الولايات المتحدة العسكريين هذا تماماً. فجميع الأنظمة المضادّة للصورايخ البالستية، ترجع في المقام الأول إلى عمليات احتيال ماليّ، منذ «حرب النجوم» مع ريغان، إلى نظام «ABM» المعادي لإيران مع أوباما. ونظام «ABM» هذا هو دوماً عرضةً لـ«التشبّع المحليّ»: فإذا كان لدينا عدد معين من «X» في نظام «ABM» الصاروخي، والمفترض أنه يحمي مساحة واسعة من «Y» ضدّ عدد الصواريخ «X»، فجلّ ما نريد فعله فقط تشبيع قطاع صغير من المساحة «Y» بعدد كبير من الصواريخ الحقيقية والوهمية من خلال إطلاقها في وقت واحد على هذه المساحة الصغيرة من «Y» التي تخضع لحماية نظام «ABM». فضلاً عن وجود تدابير كثيرة على الروس اتخاذها. فبإمكانهم فقط وضع غواصة واحدة من «SLBM» في بحيرة بايكال وجعلها معرّضةً للخطر.

وتُطرح فكرة القيام بذلك جدّياً أثناء بعض النقاشات في روسيا. وثمّة خيارٌ جيدٌ آخر يطرح إعادة تفعيل خط «BzhRK» السوفياتي للسكك الحديدية بين القارات. في الواقع، فإن لدى روسيا عدداً من التدابير الرخيصة والفعّالة. فهل تريدون مني أن أعرض بعضاً منها؟ بالتأكيد سأفعل.

لنأخذ صواريخ «Kalibr» التي شوهدت مؤخراً في سورية مثالاً على ذلك. هل تعلمون أنه بالإمكان إطلاق هذه الصواريخ من إحدى الحاويات التجارية النموذجية التي قد نعثر عليها على سطح الشاحنات أو القطارات أو السفن؟

وللتذكير فقط، فإن «Kalibr» يبلغ مداه بين 50 و4000 كلم وهو قادرٌ على حمل رأس نووية واحدة. فكم سيكون من الصعب على روسيا بنظركم نشر هذه الصورايخ في حاويات السفن قبالة الشواطئ الأميركية؟ أو الإبقاء على بعض من هذه الحاويات في كوبا أو في فنزويلا؟ إن هذا النظام غير قابلٍ للكشف، فالروس كانوا قد نشروه قبالة السواحل الأسترالية بهدف ضرب مركز وكالة الأمن القومي في أليس سبرينغز لو أرادوا ذلك، ولن يكون بمقدور أحد أن رؤيتها قادمة.

إذاً، أصبح من الواضح الآن، أن قدرة الولايات المتحدة على إطلاق الزناد تجاه روسيا أو حتى الصين، لن يمرّ من دون تلقي الولايات المتحدة تبعات هذا الفعل المرعبة. ومع ذلك، فإنني عندما أستمع إلى كلّ هذا الهراء الصادر عن سياسيين وجنرالات غربيين، يتملكني الانطباع أنهم يتجاهلون عمداً هذه الحقيقة الدامغة. وبصراحة، حتى التهديدات الحالية ضدّ روسيا «النصف مدعومة» تؤكد التالي: كتيبة هنا، وأخرى هناك، بعض الصورايخ هنا وغيرها هناك. ما يذكرنا بحكام الإمبراطورية الذين لا يدركون أنه لمن السيئ للغاية الإفراط في لكز الدبّ بينما لا يحملون في أيديهم سوى سكين بحجم اليد. تعيدني ردود فعل السياسيين الغربيين إلى صوَر البلطجية الذين يحاولون سرقة محطة للوقود مستخدمين رشاشاً بلاستيكياً أو مسدّساً فارغاً ويبدون مدهوشين أمام حقيقة رميهم بالرصاص من قبل عناصر الشرطة أو من صاحب المحطة. هذا النوع من البلطجة ليس سوى شكل آخر من أشكال «الانتحار على أيدي رجال الشرطة»، والذي لن ينتهي يوماً بشكل جيد لأولئك الذين يحاولون أن ينجوا بفعلتهم.

إذاً، علينا أحياناً إيضاح الأشياء بشكل مباشر لا لبس فيه: من الأفضل للساسة الغربيين عدم ممارسة غطرستهم الإمبريالية. فحتى الآن، لم تتخطّ تهديداتهم للروس حدود الكلام اللفظي العقيم، وبعض الاحتجاجات هنا وهناك في ما يتعلّق بتحضير روسيا للحرب العالمية الثالثة.

وكما كتبتُ مراراً وتكراراً، فإن الروس خائفين من الحرب وسوف يقومون بتجنّبها، غير أنهم مستعدّون لها في الوقت عينه. وهذه هي في الواقع ـ ميزة الثقافة الروسية الفريدة التي أساء الغرب فهمها مرّات لا تُحصى خلال الألفية الماضية. فقد تورّط الأوروبيون ضدّ الروس المرة تلو الأخرى ليجدوا أنفسهم عالقين في قتال لم يخطر يوماً في بالهم، ولا حتى في أسوأ كوابيسهم. ولهذا يفضّل الروس القول «لا تبدأ روسيا بالحرب أبداً غير أنها تصرّ دائماً على إنهائها».

هناك هوّة ثقافية عميقة بين كيفية نظر الغرب إلى الحرب وبين نظرة الروس إليها. ففي الغرب، الحرب هي في الحقيقة «استمرارٌ للحياة السياسية بوسائل مختلفة». أما بالنسبة إلى الروس، فهي صراعٌ لا يرحم من أجل البقاء. فلْنلقِ نظرة الآن على جنرالات الغرب: إنهم مدراء مصقولون ومهذّبون وجيّدو الطباع، على غرار المديرين التنفيذيين للشركات الذين يشبهون بطريقة أو بأخرى، زعماء المافيا. أما جنرالات روسيا لو أمكننا مشاهدة موكب عيد النصر في موسكو . وبالمقارنة مع أقرانهم الغربيين، سيبدون وحشيين للغاية، لأنهم أولاً وقبل كلّ شيء قَتَلة يحسبون ولا يرحمون. وأنا لا أعني ذلك بطريقة سلبية ـ فهم في الغالب أناس شرفاء وطيبون، وكغيرهم من قادة الجيوش الأخرى، يهتمون برجالهم ويخلصون لبلادهم. لكن العمل الذي يقومون به، من خلال عدم استمرارهم بالسياسة، يعني، في معنى آخر، القدرة على إدارة أعمالهم وبقائهم على قيد الحياة، مهما كان الثمن.

لا نستطيع الحكم على الجيش أو على أيّ أمّة من خلال دراسة سلوكها في حالة الانتصارات بل نستطيع فعلاً الحكم على طبيعة هذا الجيش، أو الأمة، فقط في أحلك ساعاتها وأشدّها ظلمةً، حين تصبح الأشياء مريعة والأحوال كارثية أكثر فأكثر. وهذا ما حصل عام 1995، عندما أصدر نظام يلتسين، الذي كان غير مستعدّ البتة، منهار المعنويات، سيئ التدريب، ضعيف التغذية، ضعيف التجهيزات والبعيد كلّ البعد عن التنظيم باستثناء بعض الوحدات القليلة التي تمّ تجميعها على عجل ، الأمر بالحرب بهدف الاستيلاء على غروزني من الشيشان، كان ذلك بمثابة الجحيم على الأرض. وهذه بعض العبارات التي نطق بها القائد العسكري ليف روخلين في مركز قيادة التنظيمي الكائن داخل قبو في أحد مناطق غروزني… كان مرهقاً، قذراً، وتعباً كأيّ أحد من جنوده. وبإمكاننا أن نتذكر كيف بدا وجهه ووجوه رجاله من حوله، لندرك كيف يكون عليه حال الجيش الروسي عندما يغرق في لهيب الجحيم ونيرانه، بعد الخيانة الكبيرة التي تعرّض لها من أولئك الجالسين في الكرملين، وتخلّي معظم الشعب الروسي عنهم الذين وأعتذر على قول ذلك كانوا يحلمون بأكل الماك دونالدز وسماع موسيقى مايكل جاكسون عام 1995 .

هل يمكن لنا بمكان، أن نتصوّر الجنرال ويسلي كلارك أو دايفيد باتريوس يقاتلان كأولئك الرجال. فلْنقرأ بتأنٍّ ما ذكره الجنرال القائد شامانوف في معرض حديثه عن قانون مكافحة الشغب السياسي في الشيشان، وشامانوف يشغل حالياً منصب القائد العام للقوات المحمولة جواً، وهو بهدوئه وحُسن درايته وبرودة طبعه يتخطى بوتين بأشواط، وهذا ما أوليناه أهمية قصوى في الماضي، خصوصاً في ما يرتبط بالزيادات الفاترة للقوة، تلك التي أعلنها حلف شمال الأطلسي. وكي نفهم بشكل أوضح ما حصل مع القوات الروسية الجوية الحديثة، إليكم تصريحه: «ليس في نيّتي هنا إعلاء شأن الحرب النووية أو القوات المسلّحة الروسية. والسبب في ذلك، الأصوات الكثيرة التي علَت في محاولة منها دقّ ناقوس الخطر حول ما يحدث اليوم». فالقادة الغربيون يسكرون على أمجاد إمبرياليتهم المتغطرسة، وهذه الأمم التي كانت في ما مضى تشكل مجرّد بقعة صغيرة على الخارطة الجغرافية والسياسية، باتت الآن تشعر بقدرتها على إثارة القوة النووية العظمى باستمرار، وقد كذبت هذه الأصوات على الأميركيين وأغرقتهم بالوعود القائلة بالتكنولوجيا الفائقة السحرية، فضلاً عن حمايتهم من الحرب، بينما يستعدّ الروس بجدّية فائقة لخوض غمار الحرب العالمية الثالثة، ليتوصلوا بعدها إلى استنتاج مقنع، مفاده أن الوسيلة الوحيدة لمنع وقوع الحرب، هو أن هذه الحرب بين الروس والإمبراطورية الإنكلو ـ صهيونية لا مفرّ من حدوثها، حتى لو كان ذلك على جثة شخص واحد فقط من الروس.

أتذكر الحرب الباردة جيداً، فقد كنتُ جزءاً منها. وأذكر أننا كنا بغالبيتنا، من الطرفين، ندرك جيداً ضرورة تجنّب اندلاع حرب بين روسيا والغرب مهما كلّف الأمر. أما الآن، فإني أرتعب بعد قراءة تصريحات ومقالات كبار الجنرالات والقادة وهم يخوضون غمار بحث وتفنيد هذا الاحتمال.

كيف يمكن أن تكون عليه هذه الحرب بين الاتحاد الأوروبي وروسيا؟ وهذا ما كتبته: إنه ميلٌ شعريّ، فإن الجيش الروسي يظهر كطاقم القراصنة العملاق، أكثر منه كجيش نظاميّ. فأولئك الذين يحكمون هم عينهم من يتمتعون بالعزيمة الأشدّ والأقوى والأصلب، تماماً كمثل بعض الزملاء الوضيعين المزعجين المعتمدين على دعم أقرانهم بهدف التقليل من شعبية أحد «الضباط»… أو، يتشبّهون في ذلك بأعضاء فريق من القوزاق، يديره أحد المحاربين… وبينما يمكن أن تكون إحدى هذه المجموعات القتالية شجاعة للغاية، غير أنها لن تكون ذات فعالية تُذكر على أرض المعركة، خصوصاً لناحية الآلية العسكرية المنظمة والحديثة. وانطلاقاً من هذا المعطى، فإنه من غير المناسب، بل من المستحيل، أن تقوم القوات الروسية بأيّ حركة على أكثر من مستوى في وقت واحد ضدّ أيّ من الجيوش النظامية، وتحديداً تلك الأميركية، البريطانية، الألمانية، أو الفرنسية.

«في سبيل حديقة الحيوانات الخاصة بنا»… الحلم الغربي القديم . يرعبني هذا النوع من التعابير. ليس بسبب عنصريته وغبائه المعتوه، بل لأن يذهب إلى حدّ كبير ومن دون قدرة على إيقافه إلى الجمهور عبر وسائل الإعلام. وليس هذا فقط، فهناك عدد من المقالات المكتوبة والمنثورة هنا وهناك وهناك. وبالطبع، فإن كاتبي هذا النوع من «التحليلات» يجنون أموالهم على أمجاد هذا النوع من الهوس الفكري للقوات الغربية، وهذه هي تحديداً العقلية التي أوقعت كلّ من نابوليون وهتلر في مشكلات، وأنهت القوات الروسية متمركزةً في باريس وبرلين. ومن خلال عقد نوع من المقارنة بين هذا النوع من الهراء الشوفيني، غير المسؤول، مع ما يمكن أن يقوله قائد عسكري حقيقي، يُدعى مونتغمري، حول هذه المسألة، نقرأ التالي:

الحرب البريّة التالية ستكون مختلفة جداً عن سابقتها الأخيرة، لذلك، سيكون علينا القتال بطريقة مختلفة. وبالتوصل إلى قرار في هذا الشأن، علينا أن نكون واضحين للغاية حول قواعد وقوانين الحرب. تقول القاعدة رقم 1، على الصفحة رقم واحد من الكتاب، «لا تسيروا إلى موسكو». كثيرون قبلنا فعلوها، نابوليون وهتلر، ولم تكن النتائج جيدة أبداً. هذه هي القاعدة الأولى.

إذاً، من ذلك الذي يسعنا الوثوق به؟ القادة المحترفون أم الجنود المحترفون؟ هل يمكننا أن نصدّق فعلاً أن أوباما أو هيلاري ، ميركل أو هولاند سيقومون بأفضل مما فعله نابوليون وهتلر؟

إذاً الدولة الإنكلو ـ صهيونية «العميقة» هي حقاً دولة وهمية، ولا تجرؤ على إطلاق الرصاصة الأولى في وجه روسيا، سواء في أوروبا أو في أيّ مكان آخر، فإن نرجسية الغرب ومتعته، المأخوذ بالبروباغاندا الخاصة به وبغطرسته، سيكتشف مستوىً آخر وجديداً للعنف، فضلاً عن حربٍ لا يمكن تخيلها، وإذا لم يُحدث كلّ ما ذكرناه تغييراً في سياسات المسؤولين الطائشة، فإن الانتحار سيكون أمراً لا مفرّ منه. غير أن المشكلة، بالطبع، أنّ الملايين منّا، أي الأناس البسيطين والعاديين، سيُعانون ويموتون نتيجة فشلنا الجماعي في منع حدوث كلّ ذلك. آمل وأصلّي أن تساهم تحذيراتي المتكررة ـ على الأقلّ ـ فيما آمل أن يكون إدراكاً متزايداً بأنه لا بدّ من وقف هذه الحماقة فوراً، ولا بدّ أيضاً من حتمية عودة العقل إلى أحضان السياسة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى