غريبة لـ«البناء»: ما نقدّمه ليس علاجاً إنما نمط حياة

عبير حمدان

استطاع «علي» أن يغيّر نمط حياة الكثيرين. هو مختلف بقدرته الملائكية على رسم الخطوط الأساسية للدرب الذي سار عليه والداه الدكتور حسين غربية والدكتورة شفيقة منصور غربية منذ أسّسا «الجمعية العلمية للأوتيزم والتحليل السلوكي» «Ali for ABA Society».

تقول الدكتورة غربية إنّ ولدها هو الملهم لكل ما تقوم به، ومنه تستمد القوة للبقاء. وتشير إلى أهمية التعاطي بجدّية مع الطفل المتوحّد على قاعدة الاختصاص العلمي لا الاستعراض والمتاجرة.

غربية التي تخصّصت في بريطانيا تؤكد أن التعاطي مع الذي يعاني الاضطراب السلوكي المعروف بالتوحّد، يجب ألا يكون على خلفية العلاج فحسب، بل هو نمط حياة طويلة يستدعي التعاون بين المقدرة العلمية والبيئة الاجتماعية بإطار فعّال.

وتؤكد أن مبدأ الدمج يجب أن يقوم على أسس علمية ومتابعة فعلية للحالات الخاصة كي لا يشعر الطفل المتوحّد بأنه منبوذ من أطفال حوله لا يفهمون طبيعة معاناته. لذلك ترى أن عملية الدمج التي تعمل بعض الجمعيات والمدراس على الترويج لها ناقصة وغير واقعية.

نبدأ مع الدكتورة غربية من مقاعد الدراسة التخصصية لتقول: اختصاصي دكتوراه في التعليم والتحليل السلوكي واللغوي وهو غير موجود في لبنان. لذلك درسته في لندن في جامعة «برونيل». من خلال هذا الاختصاص يمكنك أن تعلّمي الطفل المهارات التي يحتاج إليها بطريقة مفهومة بالنسبة إليه، ومحببة عن طريق التواصل الإيجابي ومنحه كلّ المساعدة الممكنة مع السعي إلى تحفيزه كي يكون مستقلاً. ولكي ينجح هذا الأسلوب، يجب أن يكون الأهل مدرّبين بالشكل الصحيح وكذلك كل الموجودين في محيطه. بحيث أن المهارات التي يكتسبها يقوم باستعمالها في محيطه الطبيعي وبالتالي لا يخسرها.

ما أشير إليه يكمن في دراسات كبيرة، وإحداها قمنا بها على مدى سنتين في جامعة «برونيل» بشكل مكثّف. حيث عملنا مع عشرة أولاد في المركز ودرّبنا أهاليهم. ولأن الأهل شاركوا في الدراسة أتت النتائج مبهرة مع أبنائهم، وبالتالي توزّع هؤلاء الأطفال على مدارس عدّة من دون أيّ مساعدة. من هنا تبرز أهمية دور الأهل في تحسين وضع أولادهم، وبذلك أخرجنا الأهل من حالة التوتر حيث أن بعضهم كانوا قد وصلوا إلى ميول انتحارية قبل خوض تجربة المشاركة في الدراسة.

وتضيف في إطار متصل: للأسف في لبنان لا يزال عمل بعض الجمعيات قائماً على مبدأ مغلوط يقوم على الطريقة الفرنكوفونية. حيث يعملون على تعليم النطق للطفل من خلال جلستين في الأسبوع مدة الجلسة 25 دقيقة، يرافقها الحسّ الحركي والعلاج النفسي، من دون أن تكون للأهل أيّ دراية بطبيعة العلاج وبالتالي لا نرى نتائج ملموسة. وبعض الأهالي يشتكون لاحقاً من حجم التكلفة الباهظة من دون الوصول إلى مكان. المطلوب إيصال كل المفاهيم المطلوبة إلى الطفل بطريقة ملموسة. وبالتالي يبقى العلاج الشمولي هو الأمثل.

منذ أسّسنا مركزنا كان شرطنا الأساس مشاركة الأهل كي نصل بالطفل المتوحّد إلى مرحلة متقدّمة في العلاج.

أبرز الحالات

خلال سنوات العمل مع الأطفال، برزت حالات لاتفة تضيء عليها الدكتور غربية بالقول: بدأنا بتأسيس الجمعية عام 2003، وحصلنا على العلم والخبر عام 2004، حيث افتتحنا المركز في «ليسيه سان جاد» وهي مدرسة عادية. وكنا نعمل مع الأولاد بشكل تدريجي، ثم ندمجهم في الصفوف العادية. وكل الأولاد كان لديهم دمج اجتماعي في أوقات الفرص والرياضة، وكنّا نجلب أولاداً من الصفوف العادية إلى الصفوف التي تضمّ الحالات الخاصة لكي يعتاد الولد المتوحّد على قرينه النموذجي. وبعد ثماني سنوات قرّرنا أن يكون لنا مركزنا الخاص في منطقة ذات طبيعة بيئية مريحة ومناخ مريح وصحي، فوقع الاختيار على منطقة عين عنوب. اليوم لدينا أطفال من كل لبنان ومن دول الاغتراب. ولدينا أولاد كثيرون باتت حالتهم الاجتماعية طبيعية واندمجوا في مجتمعهم بشكل كبير. خلال مسيرتنا مرّ علينا الكثير من الحالات البارزة. حتى خلال تجربتي الشخصية في بريطانيا عالجت حالتين من التوحّد المتوسط حتى أنهما كانا يفتقدان القدرة على الكلام. واليوم هما يدرسان في الجامعة بشكل عادي.

أما في المركز هنا، فأحب الإضاءة على بعض الحالات أوّلها الطفل «أمجد» الذي يقيم اليوم في الإمارات. وهو لبناني كان يعاني من التوحّد المتوسّط. وقبل سفره بسنة واحدة خضع لفحص في الجامعة الأميركية فكانت نسبة التفاعل لديه متقدّمة جداً وهو الآن في مدرسة عادية في المرحلة الابتدائية. ولدينا طفل ثانٍ من سورية أتى مع والدته التي بقيت هنا سنة كاملة، وهو اليوم مندمج بشكل جيد مع المجتمع.

وتشير غربية إلى أنّ بعض الأهل يطلبون منهم ألا يذكروا المرحلة التي مرّ بها أبناؤهم لاعتقادهم أنهم يقومون بحمايتهم.

تشدّد غربية على أهمية العمل بشكل مبكر مع الولد المتوحّد كي يكون العلاج فعّالاً، وتتحدث عن الطفل «فضل» فتقول: «فضل» عمره خمس سنوات. وكان يعاني من صعوبات سلوكية قوية. عملت معه ولاحظت أن لديه قدرات عالية، ولكنه بسبب الصعوبات السلوكية وغياب التواصل لا يمكنهم إدارك قدراته على رغم أنه مسجل في مدرسة دامجة. هذا الطفل يمكنه خلال ساعة واحدة أن يتعلّم ما يتعلمّه طفل نموذجيّ خلال شهر كامل. لديه قدرة هائلة على القراءة، ولمجرّد أن يرى الكلمة يتمكّن من كتابتها. وأيّ رقم تعطيه إياه يجمعه بشكل سريع. ومع الوقت أصبح سلوكه أفضل.

أما «زاهي» الآتي إلينا من البرازيل، فلديه سلوك خاص يعتمده لينال ما يريده. هو اعتاد أن يفتعل مشكلة مع المعلّمات في مدرسته كي يخرج من الوضع الذي يراه مزعجاً. لذلك وصل إلى حدّ أن يضرب المعلمة وبالتالي تكون والدته في انتظاره خارجاً ليترك المدرسة. في يومه الأول طلب أن يذهب إلى المنزل، وبالفعل ضربني، ولكنني لم أكترث لهذا السلوك. فقال لي: «يمكنني أن أذهب إلى البيت الآن؟»، فأجبته بالرفض، وبأنه يجب أن يبقى حتى نهاية الدوام. وبالفعل هذا ما حصل. وتدريجياً، تخلّى عن سلوكه وبرزت لديه قدرة على إتقان اللغات سريعاً. لدينا معلمة تتكلّم الإسبانية، وعلى الفور استطاع «زاهي» أن يتكلم الإسبانية بشكل صحيح وكذلك الإنكليزية من دون أيّ مساعدة من أحد، على رغم أن اللغة المعتمدة في البرازيل هي البرتغالية. هذه الحالات المتميزة تؤكد أهمية العلاج بشكل علميّ ومدروس.

أما عن درجات التوحّد فتقول غربية: في حالة التوحّد لا يوجد ولد يشبه الثاني. لكل حالة طبيعتها الخاصة. ثمة أمثلة على حالات عبقرية. فمثلاً هناك ولد اسمه «ستيفان» في بريطانيا، يرى المشهد لمرّة واحدة ويرسمه على الفور، وهو بالفعل رسم البرلمان البريطاني بشكل متكامل ولم ينقص منه أيّ تفصيل على رغم أنه لا يعرف الحساب. كما أنه رسم المدينة لندن بعد أن رأها من الأعلى في الطائرة. وهناك أيضاً ضرير يعاني التوحّد، وقد تم اكتشاف قدرته على عزف أيّ مقطوعة موسيقية على البيانو لمجرّد أن يسمعها، علماً أنه لم يتلقّ دروساً في العزف. وهناك امرأة تبلغ من العمر 27 سنة حين ترينها تظنين أنها تعاني تخلفاً عقلياً كونها تصدر أصواتاً غير مفهومة، إضافة إلى حركات كثيرة تعتبر غريبة، وعن طريق الصدفة أحضروا لها حاسوباً يضمّ برنامجاً ناطقاً لمجرّد طباعة الأحرف، وبشكل تلقائي وسريع بدأت بالطباعة وكأنها تخاطب من حولها. وتصوّري أنها قالت: «لو رأيتموني في الشارع لن تصدقوا أنني هذه الفتاة التي تتكلم على هذا النحو، فأنا حين أتصرّف على هذا النحو الذي تستغربونه، فهذا لأنكم لا تفهمونني، ولكن حين أعطيتموني أداة تفهمونها أصبح لدي قدرة على التواصل معكم ولكن لماذا لا تقولون لأنفسكم أنكم لا تملكون قدرة للتواصل معي، أنا أعرف ما يحيط بي، وتزعجني نظرة الناس إليّ». الخلاصة أن البعض لديهم القدرة على الاستعياب والاصغاء، ولو أنه يظهر عليهم عكس ذلك، وإن لم يفهمهم من حولهم فتكون النتيجة انطواؤهم على ذاتهم أكثر.

وترفض غربية وصف الطفل الذي لا يملك القدرة على التواصل بالعدوانيّ، مشيرة إلى أهمية تعليمه كيفية التواصل كي لا يكون منبوذاً من قبل المجتمع.

تركّز غربية على أهمية دراسة حالة الطفل بشكل جيد وعدم إطلاق الأحكام والنظريات الطبية العشوائية، إذ إنه لا يحق لطبيب نفسيّ تقييم حالة سلوكية معينة وتصنيفها أنها توحّد من الدرجة الأولى، وكذلك لا يحق للجمعيات وضع كل الحالات في خانة محدّدة من دون أيّ متابعة فعلية ومقارنة حقيقية بين الطفل المتوحّد وقرينه النموذجي.

الدمج الجسدي

أما في ما يتصل بعملية الدمج الجسدي فتقول غربية: للأسف هناك بعض الأهالي يرفضون الاعتراف بواقع الحالة التي يعاني منها أولادهم. ويصرّون على إلحاقهم بمدارس يُقال إنها تعتمد الدمج الجسدي بين المتوحّد والنموذجي. في هذه المدارس يكون هناك وجود لبعض الجمعيات من خلال معلمة خاصة، وهذه المدارس تقبض مبالغ طائلة من دون إحراز أيّ نتيجة. فحين نضع الطفل المتوحّد في مدرسة عادية من دون دراسة علمية صحيحة، يصبح الدمج جسدياً فحسب. إذ إنّ الطفل لا ينال المهارات اللازمة، وحين يصل إلى المرحلة الابتدائية يتم رفضه من قِبل المدرسة كونه لم يكتسب أيّ مهارات تعليمية ولم يندمج مع محيطه بالشكل الصحيح. أنا ضدّ هذا الأسلوب التجاري الذي يصل بالأهل إلى طريق مسدود ولا يساعد الطفل في الإطلاق. ليس المطلوب أن يكون مع الطفل المتوحّد مرافقة تمسك يده ليستعمل القلم. بل يجب أن تعلّمه كيف يستعمل القلم وحده وكيف يتفاعل مع محيطه ويشعر بأنه جزء من هذا النسيج لا حالة نافرة ومستهجنة.

وتختم غربية بالإشارة إلى أنها ستضمّ أبحاثها ودراستها في كتاب خاص بها في محاولة منها لنشر الوعي وإيصال المفاهيم العلمية إلى الناس بشكلها الصحيح.

ما هو التحليل السلوكي؟

«ABA/ VB»، أو التحليل السلوكي، هو برنامج خصّص لتعليم أولاد التوحّد وذوي الاحتياجات الإضافية، بغضّ النظر عن مكان التعليم البيت أو المدرسة . وهو مبنيّ على أساس نظام تدريبيّ مخصّص لدراسة سلوك الإنسان وفهمه وتحسينه. صمّم «ABA» لكي يلبّي حاجة الطفل وتعليمه المهارات التي يحتاج إليها عن طريق استعمال التحفيز الإيجابي، المكافأة، المساعدة، لكي يستطيع الاعتماد على نفسه بشكل تلقائي.

وعلى رغم وجود عدّة طرق وعلاجات وبرامج تدريبية متعدّدة لمساعدة الأولاد الذين يعانون من التوحّد، فإن أسلوب التحليل السلوكي «ABA/VB» هو الوحيد الذي خضع للأبحاث والدراسات العلمية.

في عام 1981 صُنّف هذا البرنامج من أفضل العلاجات والأكثر فعالية. وأشارت هذه الدراسات إلى أن 20 في المئة إلى 47 في المئة من الأولاد الموصوفين بالتوحّد، استثنوا من هذا التصنيف بعدما خضعوا للبرنامج المذكور وبشكل مكثّف، وبالتالي دخلوا المدارس العادية من دون الحاجة إلى أيّ مساعدة إضافية.

يمدّنا «ABA/VB» بأداة لتعليم الاولاد مهارات جديدة عن طريق تبسيط هذه المهارات إلى وحدات صغيرة يستطيع المصاب بالتوحّد مع المساعدة والمكافأة القيام بها. والعمل بعد ذلك على زيادة هذه الوحدات تدريجياً تساعده في القيام بهذه المهارات بشكل تام وكامل.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى