ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

تُخصّصُ هذه الصفحة صبيحة كل يوم اثنين، لتحتضنَ محطات لامعات من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة من مسار الحزب، فأضافوا عبرها إلى تراث حزبهم وتاريخه التماعات نضالية هي خطوات راسخات على طريق النصر العظيم.

وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا تفصيل واحد، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.

كتابة تاريخنا مهمة بحجم الأمة.

إعداد: لبيب ناصيف

ليلى جدع: لا تنسى

ذكرها الأمين د. عبدالله سعادة في كتابه «أوراق قومية»، أشار إليها الامين د. منير خوري دون ان يسمّيها، في مذكراته «سفينة حياتي»، وأهداها الأمين موسى مطلق كتابه «ليلى»، وقد جاء في المقدمة: الى رفقائي الذين عرفوا في ايام التجربة القاسية، ليلى.. الإنسان، التي نقلت القيم والمناقب من عالم التجريد الى واقع التجسيد، والى كلّ ليلى في بلادي، أهدي ليلى… الكتاب.

بدوري عرفتها. كنت أتولى مسؤولية رئيس مكتب الطلبة في ستينات القرن الماضي وكانت المواطنة اللامعة، ليلى جدع متحركة، ناشطة، ومتفانية في سبيل التخفيف من معاناة رفقائنا في الأسر. دورها إزاء الأمين موسى مطلق وقد رافقت معاناته بعد ان بدأ الداء الخبيث يقتات من عافيته، معروف، كذلك زياراتها العديدة لتفقد الرفقاء الأسرى، وتنظيمها تصريف إنتاجهم من الخرز، عبر إقامة معارض او الاشتراك في معارض في أمكنة متفرقة.

وكنتُ كرئيس لمكتب الطلبة، التقي بها باستمرار، ونوجه الطلبة من الرفقاء والمواطنين الأصدقاء للمساهمة في تنظيم دوام في أجنحة المعارض الخاصة بإنتاج الرفقاء الأسرى، فكانوا يصرفون الساعات قبل الظهر / بعد الظهر / ومساء في الجناح الخاص بإشغال الرفقاء، بيعاً للمنتوجات الرائعة، من لوحات وجزادين من أشغال خرزية جميلة، واخرى متنوعة: «قطع موزاييك من قشر البيض المسلوق. وقسور خشبية رقيقة، ومن البحوص الحصى الطبيعية الصغيرة الملوّنة التي يجمعها بناء على طلبنا بعض أهالي رفقائنا من على شاطئ البحر، وغيرها من عشرات القطع الجميلة» «سفينة حياتي» ص 140-141 .

تلك المنتوجات كانت تباع. الرفقاء والرفيقات الطلبة ينظمون الحركة المالية، وتتسلّمها السيدة ليلى جدع، وبدورها تسلّمها الى الرفقاء الأسرى الذين كانوا يؤمّنون جزءاً جيداً من مصروف عائلاتهم.

من تلك المرحلة استذكر بتقدير الرفقاء والرفيقات يوسف سالم، اليدا سالم، طنوس طعمة، مهى سعادة، بسام مخول، وكثيرين غيرهم ممن كانوا يتطوّعون لهذا العمل. وأستذكر أيضاً الجناح الذي يقام كلّ سنة ضمن معرض في بناية سينما ستراند، بشارع الحمراء، وفي بناء مدرسة في الأوزاعي، وفي غيرهما أيضاً ممن لا تسعفني الذاكرة لتعدادها.

يكفي أننا اذ نتكلم عن معاناة رفقائنا الأسرى، لا بدّ ان نتوقف كثيراً امام تفاني تلك المرأة، ليلى جدع، التي صرفت سنوات غير قليلة وهي تتابع الرفقاء الأسرى، تهتمّ، تعنى بشؤون المرضى والمعوزين منهم، تتفقدهم، وتخفف من عذاباتهم.

لعلّ القصيدة التي يتوّج الأمين موسى مطلق ديوانه «ليلى» هي لسان كلّ من عرف السيدة ليلى جدع، أحبّها، وحكى الكثير عن فضائلها.

تلومينني أنيّ من الطين هل بدا

لعينيكِ أنيّ قد غُلبتُ على أمري

وتَنسَيْنَ أنيّ والترابُ يشدّني

سَمَوتُ كغصن الورد يطفَحُ بالعطر

فان كان ساقي في التراب يُسيُ بي

فهذا عبيري جاء يحمله عذري

وما أنتِ إلاّ قيمةٌ تستحثّني

فتخفق أشواقي بأجنحة الشّعر

فيا بسمةً شعّت بليلِ كآبتي

سيبقى مع الأيام حُبُّكِ في صدري

وإنّ يداً أسديتِها لي حفظتُها

وها هي تحيا في الكتاب مدى العمر

عن كتاب «أوراق قومية» للأمين الدكتور عبدالله سعاده، هذا البعض من كثير عن الرفيقة ليلى جدع.

« ظلت معاملة السجانين للسجناء سيئة، كان الأكل رديئاً جداً، والأكثرية الساحقة من الرفقاء المسجونين في طرابلس لا يستطيع أهلهم ان يمدّوهم بالضروريات من الملبس والمأكل والعلاج، هذا بالاضافة الى انّ عدداً غير قليل من عائلاتهم كان يعاني حالات الفاقة الشديدة. فبدأت تنتشر في صفوف الرفقاء بعض مثالب التفرّد والفوضى. وهنا بادر الأمين منير خوري، بوصفه استاذاً في علم الاجتماع وصاحب خبرة غنية في موضوع الإنعاش الريفي، الى البحث عن طريقة لإنقاذ الرفقاء من هذا الوضع، فوضع مشروعاً عنوانه الأبرز تحويل السجن الى مدرسة ومشغل. وبكلّ وسائل الضغط المعنوي، وبالتعاون مع رفقائه، توصل الى تحقيق هذا المشروع، فقسّم الغرف ووزع السجناء حسب الحاجة، بحيث أصبحت كلّ غرفة تختص في حقل من حقول التعليم او الإنتاج، وكانت بين السجناء طاقات فنية وإبداعية. ولما كان الرفقاء قد بدأوا وعلى مسؤولياتهم الفردية بحياكة بعض السلع من الخرز الملوّن، كلّ حسب رغبته او هواه دون تصاميم مدروسة، فقد قام الرفقاء الموهوبون بوضع تصاميم لإنتاج الخرز على سوية فنية راقية، وطلب الى الجميع التقيّد بهذه التصاميم وبرامجها، وبدأ الإنتاج على أسس فنية سليمة.

وكانت السيدة ليلى أديب جدع تلعب دوراً رائداً في تصريف هذا الإنتاج في المعارض والمحلات. ولقد قصدتها مرة رئيسة المحترف اللبناني السيدة ادّة تعرض عليها جزداناً من صنع فرنسا طالبة إليها ان يحاول السجناء تقليده، ولما عادت السيدة جدع بالجزدان المصنوع في السجن لم تستطع السيدة ادّة الا ان تعترف بأفضليته على الإنتاج الفرنسي المتطور.

أخذ الإنتاج الفني بالازدياد والتنوّع، وبدأ الرفقاء بإنتاج سلع من الكرتون وقشر الخشب المسموح به في السجن، لأنّ إدخال الاخشاب وكلّ الأمور الحديدية من مسامير وسواها كان ممنوعاً. وكان الرفقاء «يهرّبون» من المغاسل ومن العيادة الطبية بعض الشفرات للاستعانة بها. وتحسّن إنتاجهم في الموزاييك الخشبي وقشر البيض، وحتى انهم أنتجوا غيتاراً وعوداً، ولا يزال العود موجوداً لدى الدكتور منير خوري حتى اليوم. ونُظّمت الغرف بحيث تؤلف كلّ غرفة خلية إنتاجية مشتركة، وكان العيش في كلّ غرفة مشتركاً، مع الحفاظ على حق كلّ فرد بإنتاجه الفردي، على ان يحسم منه مبلغ للعيش المشترك في الغرفة، ونسبة خمسة بالمئة لصندوق الطوارئ، العام، فتحوّل السجن الى قفير منتج، وكان معدّل إنتاج الفرد الواحد في الشهر يتراوح ما بين المئتين والأربع مئة ليرة لبنانية آنذاك. وانعكس المدّ، إذ اصبح باستطاعة الرفقاء ان يسعفوا عائلاتهم في الخارج. أما المدارس فسارت بموازاة الإنتاج، وتمّ تدريس اللغات العربية والفرنسية والإنكليزية ومسك الدفاتر والمحاسبة داخل السجن وبالمراسلة. وفي هذا الجو انسجم الرفقاء جميعاً، باستثناء اثنين. واحداً لعجزه الوضعي، وآخر لعلته العشائرية التي ترى في العمل نقيصة لا تليق بوجيه».

في سجن القلعة استمرّت سياسة الإنتاج والمدرسة في السجن التي كان رفقاؤنا قد بدأوها في سجن طرابلس. وتنوّعت زيارات المدارس والمساعدات الاجتماعيات لنا، فضلاً عن الأهل والاصدقاء… وتولى الامين ادمون كنعان 1 مسؤولية ضبط الإنتاج وحساباته. كما تولّت السيدة ليلى اديب جدع مسؤولية تصريفه.

وكان اذا تعذّر بيع شيء، تفرضه على أهلها او تشتريه هي. هذا بالاضافة الى اهتمامها المتواصل بأوضاع عائلاتنا الفقيرة. كما انّ جميع الوصفات الطبية التي كانت تُعطى للمرضى في السجن، كانت تشتريها هي وتدّعي انها تحصل عليها من مؤسسات خيرية.

تحسّنت أوضاعنا كثيراً في سجن القلعة لجهة حرية التنقل بين الغرف، وممارسة الرياضة البدنية ولعبة الكرة الطائرة «الفوليبول»، وإقامة مطبخنا الخاص نموّنه من التموين الناشف المعطى لنا ومن مشترياتنا. وبدأنا نشهد إقبال الطلبة من الجامعات لمقابلتنا، وكان رفقاؤنا الطلبة اذا أرادوا ان يكرّموا زميلاً لهم، اصطحبوه لزيارتنا في سجن القلعة 2 . وبدا واضحاً انّ الثورة الانقلابية بذاتها كانت تعبيراً صادقاً عن كبت الشعب ضدّ هذا النظام، وأنه بالرغم من الاضطهادات القمعية البربرية أخذ الحزب ينتشر انتشاراً مضطرداً وبخاصة في أوساط الطلبة، حتى أصبحنا الحزب الأكثر انتشاراً بين جميع الأحزاب في الأوساط الجامعية.

أصيب الرفيق موسى مطلق ابراهيم بمرض في حنجرته، تبيّن انه سرطان في الحنجرة، ونقلت إليّ السيدة ليلى جدع تفاصيل حالته الصحية من الأطباء في الجامعة الأميركية، الذين وقفوا بين خيارين: اما عملية جراحية راديكالية يخسر معها صوته، ولكنها تخفف خطر عودة السرطان، وإمّا المعالجة بالأشعة التي تحفظ له صوته، ولكنها تجعل خطر عودة السرطان أكبر. وطلبت إليّ ان نقرّر ايّ أسلوب نتبع. استدعيت الرفيق موسى مطلق ابراهيم، وشرحت له وضعه الصحي والخيارين المطروحين. فاستمع إليّ دون ان يبدي ايّ نوع من أنواع الانفعال او التهيّب، وكأنه يستمع الى قصة لا تعنيه وأجابني بأعصاب هادئة الى حدّ البرودة: «أنت أمين وطبيب وأنت أقدر مني على القرار، فأرجوك ان تقرّر عني ولك الشكر». فأخبرته انني أفضّل الجراحة. فقال: «لتكن الجراحة». وانصرف 3 «

هوامش

1 – ادمون كنعان: من كفرشيما ومن مؤسّسي العمل الحزبي فيها. تولى مسؤوليات محلية ومركزية، منها عميد للمالية. شارك في الثورة الانقلابية، وسجن. بعد خروجه من الأسر توجه الى نيجيريا حيث أسس اعمالاً ناجحة، ثم انتقل للاقامة في باريس وما زال فيها، متقدّماً بالعمر.

2 – تحدّثت في أكثر من مناسبة عن دور الطلبة في ستينات القرن الماضي. مراجعة قسم «من تاريخنا» على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info.

3 – مراجعة النبذة المعممة عن الأمين الشاعر والباحث، موسى مطلق ابراهيم على الموقع المذكور آنفاً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى