لاءات الطبقة السياسية ولا حياة لمن تنادي…

علي بدر الدين

بات من المستحيل تغيير أداء الطبقة السياسية الحاكمة الذي انتهجته في إدارة شؤون الحكم وما زالت منذ ما يقارب ربع قرن، وأنتجت أزمات ومشكلات اقتصادية واجتماعية ومعيشية، وشرّعت الأبواب لصراعات لا تنتهي بين المكوّنات الطائفية والمذهبية على السلطة ومنافعها، وعلى تقاسم الحصص وتبادل الصفقات، وحوّلت البلد مجموعة من المزارع موزعة جغرافياً وسياسياً وسلطوياً على أمراء السياسة والطوائف والمذاهب، فأفقدت لبنان واللبنانيين صفة الوطن والمواطن، وأصبح لهؤلاء الحاكمين أتباع وأزلام ومنتفعون استسلموا لمصالحهم الوضيعة ولقضاء الحاكم وقدره ومشيئته، ويصحّ القول «كل ديك على مزبلته صياح»!

السياسة التي تتبعها هذه الطبقة السلطة وعن سابق إصرار وتصميم وتخطيط شلّت مفاصل الحياة، ووأدت محاولات التطوّر والتقدّم، وحالت دون انتظام لبنان في منظومة دول العالم التي تجهد إلى إثبات وجودها وتحسين أوضاعها وتوفير مقومات الإنتاج والديمومة لمؤسساتها وقطاعاتها المختلفة، كما لأنظمتها وقوانينها التي أكل الدهر عليها وشرب، ولم تعُد صالحة لحكم عشيرة أو قبيلة، فكيف تصلح لحكم دولة وشعب هو مكتشِف الحرف ومصدّره إلى العالم! وبدلاً من بذل الجهود لتطوير الحكم في لبنان وإحداث نقله نوعية في عمل مؤسسات الدولة وإداراتها واختيار الأكفأ والأنجح لإدارتها اتجهت الطبقة السلطة إلى تعميم ثقافة الواسطة أو «الأقربون» أولى بالوظائف العامة والرشى والفساد والعمولات التي تحوّلت قيمة مضافة وإظهار شطارة اللبناني الذي يعرف من أين تؤكل الكتف، وكيف يجني الثروات، ومن لا يسير على الشوكة والخطى ذاتهما فهو غبي وفاشل، فانقلبت مفاهيم الأولويات وطغت المصالح الخاصة على مصلحة لبنان واللبنانيين، وتحوّل هدف هذه الطبقة إلى تعزيز ثباتها في مواقعها السلطوية من دون أن يقدر أحد على زحزحتها عنها ولو قيد أنملة، بعد أن أحكمت قبضتها على الإنسان والجماد، وبعد أن علّبت جمهورها الواسع أو القليل في أطر حزبية وطائفية ومذهبية، وأغرت بعضه بموقع هنا وصفقة هناك من دون أن تتخلّى عن أيّ مكسب أو موقع لها.

إزاء استمرار سلوك هذه الطبقة في التعاطي السلبي مع قضايا الوطن والناس، لم يعُد مفيداً كثيراً أو قليلاً أقله في المدى المنظور الرهان على الأصوات التي تدعو إلى الانتفاضة والإصلاح والتغيير، لأنها تصرخ في قعر وادٍ عميق لا تسمع فيه سوى الصدى، غير أنّ الإصرار على مواصلة صراخ الموجوع ربما ينجح في إحداث ثقب ولو بمقدار ثقب الإبرة في بنية هذه الطبقة أو يحدث صدمة ما في ظروف مؤاتية تخلخل تركيبتها المتماسكة وتنزع منها ولو القليل من امتيازاتها ومكتسباتها وثرواتها الطائلة. ورغم ذلك، فهي لم تكتف بما أنجزته لغاية الآن، لأنّ حبلها ما زال على الجرار وعداد حسابها يعمل من دون توقف حتى وصل بها الطمع وكسر كرامة المواطن بأن انتزعت مكوّناتها في حكومة المصلحة الوطنية حقاً من حقوق اللبنانيين، وسطت خلسة على تخفيض الحدّ الأدنى للأجور بموافقة وزراء شهود الزور مع أنّ المنتظر منهم إقرار سلسلة الرتب والرواتب، ولكن ليلة القبض على أجور العاملين وتعبهم وعرقهم وتضييق الخناق المعيشي على هذا الشعب المسكين تتحمّل مسؤوليته الحكومة مجتمعة المغطاة سياسياً من الطبقة الحاكمة. وإنْ حاول بعض الوزراء التنصّل من هذا القرار الجائر وغير المسبوق من دون الاعتراض عليه ومحاولة إبراء أنفسهم من تهمة إقراره على قاعدة «شاهد ما شفش حاجة»! والعجيب أنّ القوى السياسية والحزبية التي تدّعي تمثيلها للشعب غابت عن السمع، وكأنّ الأمر لا يعنيها، وتحوّلت مجموعة من الصمّ والبكم والعمي لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم وكأنّ على رؤوسها الطير…

غير أنّ محاولة الانقلاب العسكري على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حرّكت حمية المذهبيين الذين «تقانصوا» عبر وسائل التواصل على اختلافها ما بين مؤيد ومعارض، ونسوا أنّ لبنانهم يغرق في بحور من الظلمات والقهر والحرمان من دون ناصر أو معين أو مغيث ولم يتّعظ هؤلاء أو يتعلّموا من الحروب والتجارب القاسية والمرة التي أصابت لبنان ولا تزال الأخطار محدقة به من كلّ حدب وصوب وجهة، ويلتفتوا إلى معاناته التي لا يحسد عليها وقد بات «قاب قوسين» من الانهيار والضياع في خضمّ الحروب والصراعات التي تعصف بالمنطقة وتهدّد العالم.

السؤال متى يتخلّى اللبنانيون أو بعضهم على الأقلّ عن رفع مظلاتهم إذا ما أمطرت في أميركا أو روسيا أو تركيا أو أيّ دولة في العالم تتصارع على المصالح ومن أجل السيطرة وتمدّد النفوذ وتحقيق المكاسب. هذا البعض الذي يبدو أنه تائه في صحارٍ مترامية الأطراف، لا ولاء له ولا انتماء ولا هدف سوى التلهّي بما لا يعنيه والتخلي عن وطن عبثت به عهود وحكومات وطبقات سياسية وكوّنت نظاماً سياسياً طائفياً فاسداً أفسد كلّ شيء ورمى هذا الوطن في غياهب النسيان والإهمال والحرمان وثبتت لاءاتها في مواجهة شعب اختار له القدر أن يكون في هذا البلد المزنّر بقنابل سياسية وطائفية ومذهبية موقوتة تفجر عن قرب أو بُعد كلما أراد الآخر وبسياسيين يتوارثون السياسة والزعامة والإمارة والبكوية والباشوية عبر أجيال متعاقبة، وبإرادة الشعب العظيم الذي يتسابق إلى طلب الرضى والمبايعة علّه يحظى بالنزر القليل من بقايا صاحب الأمر والشأن والربط والحلّ وولي النعمة. ومن لاءات هذه الطبقة لا لانتخاب رئيس للجمهورية، لا لقانون انتخاب وطني تمثيلي وعصري، لا ماء ولا كهرباء، لا نفط، لا غاز، لا سلسلة رتب ورواتب، لا تفاؤل، لا أمل، لا حلول، حتى إشعار آخر، ومن لا يعجبه فليبلط البحر ولا حياة ولا ضمير لمن تنادي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى