تركيا على صفيح ساخن! ماذا بعد الانقلاب الحقيقي الذي يقوده «أردوغان» الآن؟!

د. رفعت سيد أحمد

الآن… وبعد أن هدأت نسبياً ردود الفعل على الانقلاب العسكري الفاشل الذي جرى فى تركيا ليلة 16/7/2016 ، ودخلت الدولة التركية تحت حكم أردوغان في مرحلة جديدة من الحكم الاستبدادي الملتحف بعباءة ديمقراطية خادعة، وروح انتقامية شديدة القسوة على كافة ألوان الطيف من المعارضين السياسيين والعسكريين، الآن… يحتاج المشهد إلى إعادة قراءة وتأمّل ليس فحسب لما جرى فى انقلاب الثماني ساعات وأسراره التي بدأت تتكشف تباعاً، بل والأهمّ حول مستقبل تركيا بعد المحاولة الانقلابية وما تلاها من انقلاب آخر أكبر وأهمّ يقوده الآن أردوغان ضدّ أسس الدولة التركية وضدّ أبسط قيم الديمقراطية.. ماذا عن هذا المستقبل بتعقيداته واستحقاقاته الداخلية والخارجية؟

أولاً: وبداية ينبغي عدم السير في السيناريو الذي تبنّته بعض الأقلام والفضائيات، بنفي أنّ هناك انقلاباً قد وقع ليلة 16/7/2016 ، لأننا بالفعل كنا أمام محاولة انقلابية للاستيلاء على السلطة وهي محاولة لا ينبغي لأحد أن ينكرها، وكونها فشلت فليس هذا مبرّراً لإنكارها. ولكن الأوفق بالذات مصرياً وعربياً مناقشة دلالة الانقلاب مع حاكم مثل أردوغان وحزبه، كان يتصوّر أن لا أحد في دولته قادر أو راغب في رفض حكمه وتغييره، وكون أنّ هناك ضباطاً وجنوداً حوالى 60 من الجيش التركي امتلكوا شجاعة إعلان الغضب وإنْ بطريقة خاطئة فإنّ هذا مؤشر على أنّ ثمة غضب شعبي وعسكري واسع ضدّ أردوغان وجد متنفساً له في هذه الحركة الانقلابية هنا أهمية القراءة الموضوعية، وليس الإنكار أو الادّعاء بأنّ أردوغان خلق تمثيلية لكي يهيمن على البلاد ويفرض النظام الرئاسي.

إنّ الواقع يقول أنّ ثمة انقلاباً قد وقع ولكنه لم يخطط له جيداً، ولعبت أجهزة مخابرات دولية دوراً في إفشاله، تلك حقيقة علينا الاقتناع بحدوثها، أما توظيفه لصالح أردوغان فهذا أمر آخر يحتاج إلى حوار منفصل.

ثانياً: استثمر أردوغان صاحب الطموحات الاستبدادية وقوع الانقلاب الفاشل، في تصفية معاركه مع خصومه السياسيين الكبار سواء داخل الجيش أو خارجه بالذات مع جماعة وشخص معلمه وأستاذه فتح الله غولن ، إنّ حجم الاعتقالات ونوعيتها المثيرة للدهشة، تؤكد أنّ أردوغان يتجه إلى حكم استبدادي بقشرة ديمقراطية، إذ ما علاقة القضاة والمدرّسين وأساتذة الجامعات، والموظفين العاديين، بحركة انقلابية فاشلة داخل الجيش؟! نفهم أن يتمّ عقاب قطاعات من الجيش أو حتى الشرطة ولكن ما علاقة الآخرين بهكذا حركة انقلابية؟ اللهم إلا إذا كان المقصود الأساسي لأردوغان هو الاستثمار الواسع والسريع لما جرى لكي يبدأ حكماً رئاسياً استبدادياً جديداً وخطيراً في تركيا وعلينا أن نلاحظ أنّ الحكم في تركيا منذ مائة عام هو حكم برلماني! ، وهذا في تقديرنا هو الانقلاب الحقيقي أما ما سبقه من انقلاب ليلة 16/7 فهو ميني انقلاب أو مشروع انقلاب لم يكتمل، لكن تمّ توظيفه وبقوة في مزاد العمل السياسي لأردوغان وحزبه.

ثالثاً: إنّ أرقام المقتولين والمبعدين بعد خمسة أيام فقط من المحاولة الانقلابية الفاشلة والتي تضمّنت وفقاً لوكالة «رويترز» إقالة ثمانية آلاف شرطي بينهم 103 من ذوي الرتب الرفيعة، وأحيل منهم 41 على المحكمة، كما اعتقلت المباحث 30 حاكماً إقليمياً وأكثر من 50 من كبار الموظّفين، فيما أعلن رئيس الحكومة بن علي يلدريم اعتقال أكثر من 7500 شخص بينهم 6038 عسكرياً و755 قاضياً و100 شرطي، بعد 72 ساعة من فشل الانقلاب الذي أودى بحياة 308 أشخاص منهم 100 من المحسوبين على الانقلابيين، وأحْصَت وكالة الصحافة الفرنسية. اعتقال 8314 من القضاة والمدّعين العامين والعسكريين وأفراد الشرطة والموظفين الحكوميين، وإقالة 9 آلاف شرطي ودركي وموظف حكومي، في هذه الأجواء الملتهبة استغلَّ اردوغان ورئيس حكومته الفرصة للتلويح بإعادة العمل بعقوبة الإعدام التي أُلْغِيَتْ سنة 1984 خلال الحكم العسكري .

ما دلالة هذه الأرقام المرشحة للزيادة خلال الأيام القادمة.. إنّ الدلالة الأهمّ هي أنّ هذه الاعتقالات والشراسة في تصفية الخصوم.. هي الانقلاب الحقيقي في تركيا الآن وليس انقلاب ليلة 16/7/2016 .

رابعاً: لكن السؤال الأهمّ في تقديرنا بعد هذه المذبحة السياسية وبعد هذا الانقلاب الحقيقي لأردوغان ضدّ القيم الديمقراطية وضدّ مؤسسات الدولة في تركيا هو: هل ستؤدّي هذه الخطوات إلى استقرار حقيقي ودائم لحكم أردوغان وحزبه الإخواني المعدّل؟ الإجابة بالقطع لا! إذ أنّ روح الانتقام والتشفّي لا تبني أنظمة مستقرة، بل ستزيد النار التي تحت الرماد، اشتعالاً وإذا ما أضفنا إليها ذلك الإذلال الممنهج الذي تمّ مع عناصر الجيش التركي، الذي كان يعدّ أحد أهمّ أعمدة الدولة التاريخية، فإنّ قدرته على قمع الأكراد ومواجهة التحديات الإقليمية المتفجرة من حوله سواء في سورية أو العراق ستكون أضعف، وسوف يصبح تفكيره الاستراتيجي في المرحلة المقبلة «الداخل التركي»، ومحاولة الانتقام والتخطيط للثأر مجدداً من أردوغان وحزبه وميليشياته المسلحة التي ظهرت باعتبارها تنظيماً سرياً موازياً لقوات الجيش والشرطة وهو انتقام وثأر في تقديرنا سيكون في المرة القادمة أكثر دموية وعنفاً..

ماذا يعني هذا؟ إنه يعني ببساطة أنّ تركيا ستدخل مرحلة الحرب الأهلية، والانشغال بالداخل وملفاته الساخنة عن الإقليم والعالم، ولن تكون هي ذاتها تركيا قبل 16/7/2016 ، وهذا في أغلب الاحتمالات سينعكس إيجابياً على الأكراد وعلى استقرار الدولتين المجاورتين لها العراق وسورية تحديداً لما عانتاه من تدخلات تركية وغربية وداعشية مرتبطة بهم دامية خلال الفترة التالية للعام 2011.

إنّ تركيا ستتفكك، ليس بالضرورة بين يوم وليلة ولكن في المدى المتوسط، وستدخل في صراع داخلي دام، بعد أن يلتقط خصوم أردوغان الأنفاس خاصة في الجيش المهان والجريح! وبالتأكيد سوف تكون أميركا و«إسرائيل» حاضرتين في المشهد، خاصة أنّ ثمة علاقات عسكرية ومخابراتية عميقة ومتشعّبة بين الدولة التركية وبين واشنطن وتل أبيب، والآن موسكو! والغريب أن لا أحد من المدافعين عن «ديمقراطية أردوغان الإسلامية المثالية» ! تحدث عن القواعد الـ23 الأميركية الموجودة في البلاد، ولا عن التحالف والتطبيع الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني! فأية ديمقراطية تلك تستقيم مع التبعية للخارج، خاصة لواشنطن وتل أبيب!

ة إنّ تركيا وبعبارة واحدة، على صفيح ساخن، صفيح أجّج ناره في الواقع انقلاب أردوغان على الدولة والتجربة الديمقراطية التركية، وليس انقلاب الثماني ساعات، إنّ المستقبل التركي مفتوح على كلّ احتمالات الفوضى، ولن تشفع الاحتفالات المصنوعة في ميدان تقسيم أو عبر قناة «الجزيرة»، في مداراة حقيقة الفوضى وروح الانتقام التي تسود البلاد الآن، والتي تشير إلى مستقبل غامض ينتظر دولة كانت مستقرة وهادئة على مياه البسفور، فجاءت الانقلابات لتعكر صفوها!

Email:yafafr hotmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى