«رباعيات» بدرية الملاك… تدخل من بهو التشظّي لتقول كلّ شيء في شيء

النمسا ـ طلال مرتضى

عندما تصير لست ملكك، تهمد كجذوة وهبت الأيام قبسة أمل، لا ضير أن تترك في الأرواح بقعة ضوء مجعّد يرتّل عليه ممثلو الحياة أناشيد نظمها شعراء حمقى، مطالعها تدلي بأن الغد أجمل، وأن الحياة أجمل ألف مرّة من الجنّة.

لم تعد في الروح مدنٌ فاضلة، ولم يكن «أحدب نوتردام» أحدباً البتة، تلك «الحردبّة» التي تكوّرت بين كتفيه هي أوجاع من أحبّهم، ودليلي صوب معراج الكلام، الذي قادنا نحو الاعتراف حين تعارفنا على قارعة الورق: زوجي الحبّ، طفلتي الحياة، طفلي الوطن، أمّي الجنّة، أبي الفخر، إخواني، أخواتي السند، أصدقائي البسمة، القصيدة التي لا تموت، «ذاتي».

قلت: وأنا؟

ردّت: عابر حبر!

في «رباعيات»، المنجز الأخير للشاعرة العُمانية بدرية الملاك الصادر عن «دار مسارات للطباعة والنشر والتوزيع»، نقف أمام السؤال البديهي: ما معنى رباعيات؟ إذ إن الساحة الثقافية الأدبية ضجّت بهذا المسمّى، وهو دلالة كعلامة فارغة على المنتج حين يتموضع كعتبة أولى ـ عنوان ـ ليفضي إلى السرّ.

رباعيات معمارها مختلف

فالرباعيات جاءت من رباعية، والرباعية مقطوعة شعرية من أربعة أبيات تدور حول موضوع معيّن، وتكوّن فكرة تامة. وفيها إما أن تتفق قافية الشطرين الأول والثاني مع الرابع، أو تتفق جميع الشطور الأربعة في القافية. وهو طرق عمل به الشاعر الفارسي عمر الخيام وإلى وقتنا هذا تُوسم بِاسمه. وهنا لا بدّ من التنويه إلى أن «رباعيات» بدرية الملاك تختلف كلّياً عمّا سبق التعريف به. فهي جاءت من حيث أن كلّ معنون داخلي ـ عتبة صغرى ـ يحمل على كاهله أربع مقطوعات تختلف بالمعمار والتشكيل البنائي عمّا اجترعه الحجة عمر الخيام: للمرّة العشرين

أنا ما هويتك سيّدي

إلا حين هواني الهوى

فالتفتُّ إليك.

وممّا تقدّم وجوباً، لا بدّ من الإشارة إلى ما تكتنفه ضفّتَي الكتاب هو أقرب إلى البوح الذي يقتنع بالشعر، فيبقي على الحالة ويتطيّر إلى استبطان موقف من العالم بهجائية ساخرة تقوم على المفارقات والتوريات:

مسؤول هذا الوطن ومن فيه

عن كلّ قطعة

خبز

ذَهبت أمام عين فقير

ولم تعد.

جمع الكلّ في واحد

أي أنه الأقرب إلى الشعر الحرّ والومضة، أقل وأكثر قدرة على التكثيف والواقع، بحيث يأخذ من روح الهايكو طريقته، لكنه يتوسّل اقتفاء الصوَر ومناهضة سائد ما بالتطيّر إلى عبارات فادحة المعنى ومحتدمة الدلالة:

وحيدة بحنيني إليك

كوحدة مريم عند مخاضها

أقصى ما أملكه

أن أهزَّ جذوع الصبر جميعها

حتى ألقاك

وأشتمّ رائحة حضنك

أقلّب كفوف يدك لأقبلها!

استنباطاً واستدلالاً ممّا تعالقت النصوص مع مثيلاتها، نخرج إلى حكم هادئ يجلي غبار الشبهة عن ماهية النصوص التي افتعلتها الشاعرة بدرية الملاك بدأب ومكابدة، بعدما زجّت طيّ نصوصها كلّ صنوف القول الشعري، ولست أدري هي المكيدة أم هي الفورة الشعرية التي تدهم الشاعر على حين غرّة، لتسقطه صريعاً أسيراً كعبد مملوك للفكرة التي تريد قول كلّ شيء في شيء:

هل تجيء اليوم؟

فما عدت أقوى

لهفي عليك

كمدينة مشتعلة

لا شيء يطفئها

أدرك حتماً أن قبل لقياك

ما وُلِد الأمل

وبعد لقياك ينتهي كلّ الكون

الوقت، التاريخ، غليان القهوة

كأن شيئاً لم يكن.

لذا أخلص إلى القول إنّ ما ابتدعته بدرية الملاك في رباعياتها، ما هو إلا ضرب من ضروب التشظّي، وهذا نوع من أنواع الكتابة عرف في الآداب الغربية، يشبه كتابات ما بعد الحدائة. مثلاً ما كتبه آلان روب غرييه عن الرواية، ومارسها هو برواية التشظّي، أي أنّها لا تعتمد منطقاً معيّناً، بل تتداعى لتشي بموقف من الذات والحياة:

مخاض هو الشعر

إن لم يكن إجهاضاً

والوطن الذي يسكن تحت شجرة

يعزف قيثارة كلّ صباح

لم يعد طفلاً

فلقد احتلم عند الغروب

رُفِعَ عنه القلم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى