انقلاب تركيا… ماذا بعد؟

رضا حرب

لم يشهد التاريخ الحديث انقلاباً بهذا الحجم ولا بهذه النهاية السريعة. سيطرت قوات برية على اسطنبول وأنقرة وفصلت القسم الاوروبي عن الآسيوي بالسيطرة على الجسر المعلق الذي يربط القارتين، وحلقت مروحيات ومقاتلات سلاح الجو التركي على ارتفاعات منخفضة وفقاً لرواية مراسل «بي بي سي» البريطانية. فجأة اختفت وظهرت في الأجواء طائرات «اف-16» معادية للانقلابيين، سيطرت على الأجواء وهاجمت بعض المدرّعات التي أحكمت سيطرتها على مواقع ومؤسسات الدولة. من أين أتت؟

فضلا عن ضباط كبار تمكّنوا من الهرب الى اليونان واختفاء آخرين، وإضافة الى قائدي الفيلق الأول والفيلق الثالث وكبير مساعدي أردوغان للشؤون العسكرية والمخطط للانقلاب العقيد محرم كوسا المستشار القانوني لرئيس الأركان، اعتقلت السلطات اكثر من 100 برتبة جنرال ابرزهم… العميد مراد شيرازي رئيس دائرة الاستخبارات في القوات البحرية، الفريق مصطفى اوزسوي رئيس دائرة الاستخبارات في القوات المسلحة، الفريق أول اكين اوزتورك قائد سلاح الجو السابق وعضو مجلس الشورى العسكري وهو أحد المتهمين الرئيسيين بالتخطيط للانقلاب، العميد محمد عارف بازرلي اوغلو قائد سلاح الدفاع الجوي، العميد كمال موتلوم رئيس دائرة الدفاع الجوي، العميد آدم بودورلو اوغلو من قيادة القوات البرية، العميد محي الدين ارغن من قيادة القوات البحرية.

الأخبار الأولية قالت باعتقال ثلث كبار الضباط لمشاركتهم في الانقلاب، وإذا كان هذا العدد الكبير من كبار الضباط هم قادة الانقلاب… فمن أفشله بتلك السرعة؟

الروايات

الرواية الأولى: تقول الرواية بأنّ قيادة الجيش علمت بالانقلاب الساعة الرابعة بعد ظهر يوم الجمعة، ايّ قبل تسع ساعات من بدء التنفيذ المقرّر الساعة الواحدة صباح يوم السبت، وقاموا بإبلاغ الرئيس المتواجد في منتجع سياحي على بحر مرمرة. وعندما علم الانقلابيون بالأمر بدأوا بتنفيذ المخطط المرسوم الساعة التاسعة مساء يوم الجمعة. لماذا لم يقم الجيش بعملية استباقية لإجهاض الانقلاب وتجنّب سفك الدماء؟ ولماذا تمّ إبلاغ أردوغان بوقت قصير قبل استهداف الفندق حيث كان يقضي إجازته؟ ولماذا استهدف الانقلابيون القصر الرئاسي؟ الرواية ضعيفة.

الرواية الثانية: قرّر أردوغان المواجهة ولو كلفه ذلك حياته. هدّد باقتحام القاعدة الجوية «أنجرليك» حيث مخزون نووي أميركي والسيطرة عليها، فوافق الأميركيون على مضض السماح للقوات التركية باقتحام الجزء التركي من القاعدة واعتقال قائد القاعدة الجنرال التركي بكر أرجان فان وكلّ الانقلابيين الذين تقول الرواية انّ معظمهم كانوا في القاعدة. الشيء المؤكد في الرواية انّ الولايات المتحدة كان لها يد في الانقلاب لأكثر من سبب سنأتي على ذكرها في التحليل.

الرواية الثالثة: فجأة ظهر أردوغان ليوجه نداء للشعب التركي عبر محطة «سي ان ان» التركية بالنزول الى الشوارع لصدّ الانقلابيين. لبّى المئات وربما الآلاف النداء، بعضهم مسلح بالسكاكين والسواطير والقضبان الحديدية، ونشرت بعض المواقع فيديو لمقتل أحد الجنود ذبحاً على أيدي مؤيدي اردوغان الإسلاميين ثم قطعوا رأسه، نسخة تركية عن «داعش» و«النصرة».

على العموم، لا يصدق عاقل انّ بضع مئات أفشلوا انقلاباً بهذا الحجم.

ماذا بعد؟

تعرّض اردوغان ليلة 16 تموز/ يوليو لانتكاسة لكنه خرج سليماً وأقوى مما كان عليه قبل الانقلاب، وبات بطلاً في نظر مؤيديه وفي نظر الرافضين لعودة مسلسل الانقلابات التي سبق لتركيا ان عانت منه على مدى عقود. حتى الدول التي اختلفت معه بسبب سياساته الإقليمية، كإيران وروسيا مثلاً، أدانت الانقلاب لأنها ترفض إسقاط حكومات شرعية منتخبة ديمقراطياً. السؤال: هل سيستخدم أردوغان قوّته في الانتقام وتحقيق طموحاته؟

بالتأكيد سيعمل أردوغان على تحقيق هدفين أساسيين:

الهدف الأول تطهير المؤسسات: من المعروف عن أردوغان نهجه التصادمي وميوله التسلطية وروحه الانتقامية، لذلك من اللحظة الاولى أُثيرت مخاوف ان يوظف الانقلاب كدافع ومبرّر للانتقام من خصومه بشكل تعسّفي وعنيف، خصوصاً أتباع عدوّه اللدود الداعية فتح الله غولن زعيم «الكيان الموازي» المزعوم، عسكريين وسياسيين وأكاديميين وإعلاميين. التقارير الأولية الواردة من تركيا تقول انّ عمليات تطهير واسعة على قدم وساق في إطار تهديدات أردوغان بتنظيف مؤسسات الدولة من الورم السرطاني استخدم اردوغان كلمة فيروس ، وتطال يد الانتقام كلّ الذين يشتبه بولائهم خاصة في الأجهزة الامنية والعسكرية والقضائية والتعليمية.

بعد الانقلاب مباشرة واستباقاً لأيّ تحقيق مع الانقلابيين، بدأت القوات المسلحة تنفيذ أوامر اردوغان بحملة اعتقالات واسعة. في اسطنبول وحدها تمّ اعتقال مئات العسكريين ورجال الشرطة ومدرّسين وأساتذة جامعيين بتهمة الانتماء الى منظمة إرهابية حركة غولن، ووجهت السلطات التركية الاتهام لأكثر من 100 جنرال بتدبير الانقلاب، وصدرت مذكرات عزل وتوقيف 2745 قاضياً، كما صدرت مذكرات توقيف بحق 140 عضواً في المحكمة العليا. إلغاء عشرات آلاف التصاريح لمدرّسين في التعليم الخاص وعزل المئات من الأساتذة الجامعيين وإبلاغ عمداء الجامعات بالاستقالة. وصل عدد المعتقلين والمطرودين من وظائفهم أكثر من 35 ألفاً، والعدد يتصاعد بشكل ملحوظ بين لحظة وأخرى.

لا تزال عمليات التطهير مستمرة، ومن المؤكد أنها ستطول وستطال كلّ خصوم أردوغان على كافة توجهاتهم، لكن هيبة الجيش التركي الملقب بـ«حامي العلمانية» ستكون الضحية الأبرز، وقياداته المتبقية ستعاني الأمرّين لأنها ستخضع لرقابة متشدّدة.

الهدف الثاني سلطوي: يحلم أردوغان بتغيير دستور البلاد وتحويل الحكم من نظام برلماني الى حكم رئاسي يُمكِّنه من الإمساك بكلّ مفاصل مؤسسات الدولة خصوصاً الجيش، لذلك سيعمل على إجراء استفتاء في أسرع وقت ممكن قبل ان تظهر الحقائق المخفية وقبل ان يبدأ وهج «بطولته» بالتلاشي. الوقت ليس في مصلحة أردوغان.

في ظلّ التعاطف معه على اعتبار انه بطل واجه الانقلابيين وحافظ على الديمقراطية، وفي ظلّ عملية التطهير التي تطال كافة المؤسسات، على الأرجح سينجح في الاستفتاء بنقل السلطة الى رئيس الدولة لإحكام سيطرته وسطوته المطلقة على مؤسسات الدولة «أنا الدولة والدولة أنا».

في التحليل

تاريخ الولايات المتحدة شاهد على تدبير انقلابات عسكرية لإسقاط حكومات منتحبة ديمقراطياً، إذ ليست الديمقراطية او حقوق الإنسان او الحريات العامة هي المعايير التي تستند إليها الولايات المتحدة في اعتبار هذه الحكومة او تلك شرعية ونظامها شرعي، بل المصالح والأنظمة التي تخدم مصالحها. أقرب حليفين وصديقين للولايات المتحدة في المنطقة هما تركيا والسعودية. تركيا دولة ديمقراطية وأردوغان منتخب ديمقراطياً، شئنا او أبينا، اتفقنا معه او اختلفنا بسبب سياسته الإقليمية المتهوّرة، وتدخله الدموي في سورية والعراق، بينما النظام السعودي وهابي ظلامي لا ينتج سوى الإرهاب.

بسبب التحديات المتصاعدة في جنوب شرق آسيا المتمثلة في طموحات الصين في بحر جنوب الصين، تغيّرت الأولويات لدى الولايات المتحدة وقرّرت الابتعاد التدريجي عن مشاكل الشرق الاوسط وعدم الانخراط المباشر في أزمات المنطقة، لكن عليها الحفاظ على أحد الحليفين «السنيّين» السعودية او تركيا.

بمقارنة سريعة فإنّ «السعودية بعقيدتها الوهابية تنشر الإرهاب في العالم، ليست إيران ولا سورية ولا أيّ دولة أخرى، السعودية هي المنبع» كما يقول السيناتور الأميركي عن ولاية فرجينيا الحزب الجمهوري ريتشارد بلاك.

وباستثناء اللوبي الصهيوني والمتصهين الذي يرى السعودية ضمانة لوجود الكيان الصهيوني، باتت في نظر شريحة واسعة من الرأي العام والنخب المثقفة ورجال السياسة «مركز الكون الشيطاني» كما وصفها جون ستانتون، ورجال الدين السعوديين «هم جذور الإرهاب» بحسب وصف توبي هارندن مضيفاً: «المملكة العربية السعودية فرّخت الإرهاب العالمي الجديد»، ودولة شريرة تشكل عبئاً استراتيجياً وأخلاقياً على الولايات المتحدة، وبالتالي خارج الخيار الأميركي.

في المقابل، حيوية الموقع الجغرافي لتركيا في الاستراتيجية الأميركية وعضويتها في حلف الناتو يمنحها الأفضلية. على عكس حاكم السعودية، أردوغان رئيس شرعي يستند في قوته إلى قاعدة شعبية واسعة تضمن وجوده وبقاءه في السلطة، فلا يمكن للولايات المتحدة السيطرة عليه وجعله دمية تحركه كما تشاء على غرار بعض الأنظمة العربية.

الانقلاب جاء في إطار الخلافات حول الخيارات، خاصة تلك المتعلقة بتطبيع العلاقات مع روسيا وإيران لأنّ هذا الخيار التركي لا يتلاءم مع الاستراتيجية الاميركية. على خلفية تلك المتغيّرات في السياسة التركية جاء الانقلاب على الأقلّ بإيحاء او بضوء أخضر أميركي كرسالة تحذيرية «لا يهمّنا من يحكم، بل كيف يحكم.» تسلّم أردوغان الرسالة، فهل خضع حتى أفشلت الولايات المتحدة الانقلاب فبات أسير الولايات المتحدة كما هو أسير خوفه وطموحاته؟

الخاتمة

تواجه تركيا مجموعة من الأزمات، الوضع الاقتصادي المتراجع، والمواجهة مع حزب العمال الكردستاني، والإرهاب الذي ارتدّ عليها نتيجة لقصر نظر أردوغان، هل سيرضخ لخيارات الولايات المتحدة الإقليمية أم يقرّر الانكفاء لمعالجة الوضع الداخلي المتأزّم ويذهب في تطبيع العلاقات مع روسيا وإيران الى آخر المطاف؟ ما قاله للرئيس روحاني حول شراكة تامة مع روسيا وإيران لحلّ أزمات المنطقة والعمل على عودة الاستقرار إلى منطقة مشتعلة ساهم هو بإشعالها، لربما يشكل منعطفاً ايجابياً في السياسة الإقليمية.

في اتصال خاص أجراه المركز الدولي للدراسات الأمنية والجيوسياسية مع الدكتور احمد ملّي أستاذ السياسات الدولية في الجامعة اللبنانية، قال: «النظام التركي في مأزق ويتمثل بتزايد خصوم النظام المحليين والإقليميين، وهذه حصيلة السياسات المتهوّرة، ومن شأن ذلك مضاعفة مشاكل النظام في المدى القريب». وسأل د. ملّي: «هل هذه الأعباء ستجبر النظام التركي على الانكفاء الى الداخل للتفرّغ لمشاكله وبالتالي تراجعه عن تدخله في سورية؟»

الأشهر القليلة المقبلة حبلى بالكثير من المتغيّرات والتطورات.

المركز الدولي للدراسات

الأمنية والجيوسياسية

www.cgsgs.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى