ميزتان ستجعلان الحسم لحساب الجيش السوري وحلفائه

ناصر قنديل

– في الحرب السورية تقابلت جيوش وأجهزة مخابرات ومقدّرات دول وتنظيمات، يمكن القول إنها اختزلت ما يمكن لكلّ دول العالم أن تزجّ به في مثل هذه الحرب، ضمن حدّين هما تفادي مواجهة دولية إقليمية كبرى شاملة كالتي كادت تقع لو أصرّ الأميركيون على ضرب سورية بعدما جلبوا أساطليهم في العام 2013. والثاني هو السير بخيار تقسيم سورية والمنطقة إلى كيانات ستكون حكماً على قاعدة الخطوط الإتنية والعرقية والطائفية، ثبت انّ اللون المذهبي الطاغي فيها إسلامياً سيمتدّ من وسط تركيا إلى وسط سورية والعراق وصولاً إلى الأردن والوسط السعودي، وسيتحوّل بصورة متسارعة كركائز وإمارات لتنظيم القاعدة بنسختيه الأصلية والمنقحة التي يمثلها «داعش»، بينما سيذهب الساحل المتوسطي من حدود تركيا مع اليونان إلى حدود لبنان مع فلسطين إلى لون مغاير مذهبياً سرعان ما يتبلور كمنطقة نفوذ إيرانية، ومثلها على ساحل الخليج المقابل لإيران على الضفة العربية من الكويت إلى المنطقة الشرقية في السعودية، ستولد دويلات تسيطر على النفط الخليجي وتشكل امتداداً لإيران. ويترتب على وجود هذه النتائج منح إيران تفوّقاً استراتيجياً على نفط الخليج ومياهه وأمنه ومثله على البحر المتوسط، رغم أنّ هذا التفوّق سيكون في قلب حرب استنزاف لا نهاية لها بعدما يكون قد تمّ تسليم الداخل العربي والتركي الخالي من الموارد النفطية لتنظيم القاعدة، بينما تنال «إسرائيل» حليفاً متمثلاً بدولة كردية تتشكل على الحدود التركية السورية العراقية.

– تفادي هذين الخيارين الخطرين الذي حكم الحرب على سورية وشكل سقفاً لإدارتها، لم يمنع واشنطن ولا سائر عواصم الغرب والإقليم المنخرطة في هذه الحرب، من وهم رهان الاستخدام التكتيكي لتنظيم القاعدة، ولا من وضع التسهيلات التي يحتاجها لتعديل موازين القوى، ولا من توظيف مئات مليارات الدولارات، وتجنّدت لفرض تغيير الموازين عشرات الجيوش بما لديها من تقنيات تنصّت وتجسّس وأقمار صناعية وتصوير، وعشرات أجهزة المخابرات، سواء بوحدات التدخل الخاصة التي كشف عن وجودها أكثر من مرة، أو بالتدريب والتنسيق العسكري، وتقديم الأسلحة النوعية، أو الغطاء الناري، وفي المقابل حصلت سورية وجيشها بالتدريج على أفضل ما لدى حلفائها، سواء الخبرة والقدرة الإيرانيتين أو البسالة والتقانة العالية والتفوّق الميداني لحزب الله، أو التعبئة القتالية والقدرة الميدانية والقيمة الأخلاقية والسياسية لمشاركة القوميين، وخصوصاً القدرة الجوية الروسية ومعها معطيات المراقبة والتتبّع، وهكذا يمكن القول بإنصاف إنّ حلفين تقابلا في هذه الحرب بأفضل ما لديهما، روسيا وإيران والمقاومة وسورية في ضفة، وأميركا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وتركيا والسعودية وقطر والأردن و«إسرائيل» وتنظيم القاعدة في ضفة مقابلة. والمواجهة تمّت بالتتابع وبالتناوب والتدريج، تحت سقف لا للحرب الشاملة ولا للتقسيم والفوضى وتسليم قلب المنطقة وجمهورها وجغرافيتها البرية لتنظيم القاعدة.

– شهدت الحرب سجالاً وتناوباً على الإمساك بزمام المبادرة. لكن وقبل أن يحسم الأميركي خياراته بالذهاب للتلاقي مع روسيا على خيار التسليم بالدور المحوري للدولة السورية ورئيسها وجيشها، من ضمن التشارك في حرب على تنظيم القاعدة، ورغم أهمية ما فرض هذا التسليم من حاجة يؤكدها تغوّل حالة القاعدة وقدراتها على دق الجدار الغربي ودكّه، ومن ضرورات استراتيجية يفرضها الانسحاب الأميركي من البرّ الآسيوي نهاية العام، والحاجة إلى بلورة خرائط تشبيك وتعاون تضمن الاستقرار والمصالح الحيوية وفي مقدّمها سلاسة سوق الطاقة، أو حاجات تكتيكية لتوقيت مستعجل مثل الانتخابات الرئاسية الأميركية، وأهمية منح المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون مصدر قوة إضافية تحتاجه يمثله تحقيق نصر مبهر على الإرهاب وخصوصاً على تنظيم داعش، فإنّ ما قالته الحرب خلال سنواتها الخمس أكد أنّ التوازن الذي يحكم هذه الحرب ومسارها، سيُنهي الوقت المخصّص للمناورات والمفاوضات إذا طال العبث الأميركي والرهان المتمادي على الاستنزاف، فالجهة القادرة على فرض المهادنة بين حلفاء سورية هي روسيا، والجهة التي ستدفع فاتورة الاستنزاف المفتوح من مهابتها ومكانتها كدولة عظمى، لن تستطيع تجنّب التطاول عليها والتجرّؤ على أمنها، ومواجهة مخاطر أفغانستان جديدة في سورية، إذا تمّ تخطي العام الحالي وبقيت المراوحة العسكرية، وبالتالي يدرك الأميركيون أنه سواء حسموا أمرهم على خيار التفاهم أم لم يفعلوا، فالذهاب للمواجهة الحاسمة من جانب سورية وحلفائها قد يتأخر ولكن لشهور وليس أكثر. وهم يعلمون التوازنات الحقيقية التي أظهرتها سنوات الحرب، والتي تجعل القدرة على الحسم لصالح سورية وحلفائها أمراً لا يقبل النقاش.

– تدرك واشنطن من تجاربها مع «قوات سورية الديمقراطية» وسواها من المجموعات السورية الكردية أو العربية المتعاونة معها، أنّ الغطاء الناري الذي توفره موسكو ليس أفضل ولا أهمّ من الذي توفره الغارات الأميركية لحلفائها، وأنّ ما تقدّمه إيران من مال وخبراء وتعبئة بشرية ليس أكثر وأهمّ وأعلى من الذي تقدّمه السعودية وتركيا، وأنّ الميدان المخابراتي والاستطلاعي يمكن اعتباره متوازناً ومتكافئاً، لكنها تدرك أنّ ما حملته معارك القصيْر قبل سنوات وبعدها معارك القلمون وبعدهما تدمر ومعارك جنوب سورية والآن شمالها، تؤكد حقيقة ثابتة، وهي أنه عندما تقع المواجهة بشروط متكافئة لجهة خطوط الإمداد وقدرة الحشد وتأمين السلاح والذخائر والاعتراف بمصيرية المعركة، فإنّ النصر يكتب لسورية وحلفائها وخصوصاً الجيش السوري ومعه حزب الله.

– ميزتان يتمتع بهما الجيش السوري وحزب الله، عندما يقاتلان معاً، هي التي تشكل بالمناسبة مصدر القلق، بل الأرق لقادة «إسرائيل»، والميزتان هما، أولاً امتلاك جسم منسجم في روابطه التنظيمية لتشكيل كتلة متراصة، يتبع لرمزية قيادية يثق بها حتى الموت، ويتماسك من حولها، وتشكل رغم كلّ المتاعب والمصاعب، مصدر يقين بالنصر وأهلية للتضحية والبذل بلا حساب، وقدوة لا تنازع، ومثالاً يُحتذى، في نفوس كلّ مقاتليها، في البنيتين المتشاركتين للجيش السوري وحزب الله، فما يمثله الرئيس بشار الأسد والسيد حسن نصرالله، في قلوب وعقول النصف مليون مقاتل الذين يصطفون كالبنيان المرصوص خلف راياتهما وتحت صورتيهما، لا تمتكله أيّ شخصية او قيادة في أيّ بنية مقابلة، ففي كلّ بنية مقابلة من بين عشرات التشكيلات، ولا يمتلك قادتها في قلوب وعقول مؤيديهم ما يمتلكه الرئيس والسيد في الجسم المتماسك لبناهم المقاتلة، وما يملكه السيد في قلوب وعقول ضباط وجنود الجيش السوري، وما يملكه الرئيس في قلوب وعقول مقاتلي حزب الله، يستحيل أن يمتكله أيّ من قادة جماعة أو دولة مقابلة في الحرب لدى جماعات حليفة، لا بل أنّ التناقض عميق في القلوب والعقول، بين الخطاب العقائدي المعلن والتحالفات السياسية والعسكرية، المعلنة أو الضمنية. ويكفي القول إنّ جماعات القاعدة المؤسسة على فكر عنوانه قتال الغرب، تجد نفسها تقاتل مع هذا الغرب وتحت لوائه، وأنّ الذين يتحدثون عن حكام الغرب والعرب ككفرة تجب إقامة الحدّ عليهم، يقاتلون تحت سقوف يرسمها هؤلاء، وينتظرون إمكانات يوفرونها لهم، وتسهيلات يحصلون عليها بفضلهم، فيعيشون الشيزوفرانيا مهما بالغوا وكابروا. وهذا الفارق ليس معنوياً فقط، بل هو عسكري وتنظيمي وميداني، يظهر في الحرب في كلّ نقلة أو خطوة أو معركة.

– الميزة الثانية هي النسبة المختلفة جذرياً بين الجسم المقاتل الصلب لكلّ من البنيتين المتقابلين من إجمالي العدد المحشود في خطوط القتال، بالمقارنة مع نسبة التجميع العشوائي والاعتباطي الذي توفره السيطرة العسكرية لأيّ فريق في أيّ جغرافيا، والقابل للانهيار مع الصدمة الأولى، فالجسم الصلب في بنية الجيش السوري وحزب الله أظهرته بصورة مبهرة حالة صمود الجيش السوري في مواقع الحصار التي تكرّرت، ما قدّمته من وقائع بطولات وملاحم، استشهد فيها المئات وهم يرفعون شارة النصر، بعدما جاعوا وعطشوا وأكلوا الأعشاب لشهور. وهذا الجسم الصلب يشكل نسبة تزيد عن ثلاثة أرباع البنية الحاضرة بين الذين يحملون السلاح تحت راية سورية وحربها، فيما لا تزيد نسبة المتطوّعين المبتدئين، أو الذين يحملون السلاح في المناطق والأحياء التي يسيطر عليها الجيش السوري، بواعي النفوذ والمصالح أو الحماس والعصبية عن الربع، والتدقيق المنهجي يكفي لاكتشاف أنّ هذه النسبة معكوسة تماماً في البنية المقابلة، حيث لا يشكل الجسم الصلب المقاتل أكثر من ربع البنية العسكرية التي تحشد في خطوط القتال وتحمل السلاح، حيث الرعاع والحثالة المتجمّعة في المدن والأرياف تشكل القوة الرئيسية التي استقطبتها الجماعات المسلحة، وشكلت منها ميليشياتها المسلحة، وهذه بنية تستسلم وتنهزم وتنهار، مع الضربة الأولى، ويسهل اختراقها وتشغيلها وتوظيفها، هذا عدا عن أنّ صفة البنية النواة الصلبة لا تستقيم هنا لأنّ الجسم المتماسك للقتال نفسه موزع الولاءات والمرجعيات، وموزع المشاعر تحت تأثير التباين بين العقيدة والسياسة والوقائع.

– قد يعرف الأميركيون أو لا يعرفون هذه الحقائق، لكنهم يعرفون بالوقائع والخبرة، أنّ كفة الميزان عندما تدق ساعة المواجهة ستكون مائلة بقوة لصالح الجيش السوري وحلفائه، ولذلك بعد طول انتظار قرّر الأميركيون أن يسارعوا للتفاهم، بعدما استنفدوا الرهانات المعاكسة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى