انكشاف الرئاسة اللبنانية… الرئيس المسيحي «تَرَف»

روزانا رمَّال

لا رئيس في لبنان «عنوة» ولا يمكن إنجاز الاستحقاق الرئاسي حتى بشكل صوري. كلّ شيء مرتبط بتعقيدات خارجية تعدّت الجوار السوري لتصل الى اروقة الديبلوماسية الروسية التي تتكفل كنيستها بـ «الحرب المقدسة» وبقيامة مسيحيّي الشرق في ظلّ موجة التطرف التي يعيشها الشرق الأوسط والعالم.

تلفت في هذا الإطار قدرة اللبنانيين على التعايش مع مأساة من هذا النوع وقدرتهم على تلقي إشارات الخارج والصبر معها حتى يحين موعد «الفرج». يأخذ الأفرقاء اللبنانيون بين قادة وزعماء المسألة بالكثير من العقلانية، ومن بينهم حزب الله الذي يُعتبر مُحرّك الرئاسة الأقوى في البلاد نظراً لقدرته على إحداث الإنجاز وإيصال مرشحه العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية، فيما لو نزل الى مجلس النواب مع حلفائه متخطياً المكوّن «السني» الأكبر في البلاد الذي لا يريد حتى الساعة عون رئيساً، وهو «المستقبل».

لم يبذل حزب الله جهداً لتخطي هذا المكوّن، ولا يريد ذلك ولم يدخل في سجال قد يفتح نافذة استغلال المتربّصين به نحو خلافات مع حلفائه حركة أمل أو حتى باقي الأفرقاء المسيحيين مثل المرشح سلميان فرنجية «من الخندق نفسه».

من جهته يدرك رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي انّ الأمر يتعلق بحسابات الخارج ولا يتوقف عن رمي التهم تارة نحو الرئيس السوري بشار الأسد وأخرى نحو إيران وحلفائها في لبنان، مستسلماً هو الآخر للانتظار. امّا الرئيس نبيه بري الذي يتعايش مع فكرة التمديد لمجلس النواب على أساس أنه «قدر لا مفرّ منه» فيحفظ لنفسه مكانة تسمح له بالتدخل «كحكم» بين المتساجلين بين مطفأة للحرائق والحساسيات وضامن للتواصل الذي كاد يهدّد بالوقوع في قطيعة يخشى ان تتطوّر فتحمل طابعاً مذهبياً انسجاماً مع أحداث المنطقة بين حزب الله وتيار المستقبل، فكان لبري «الثقل» بالحفاظ على تماسك خيوط العلاقة الحذرة بين الطرفين.

التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية مجتمعَيْن فشلا كقوتين مسيحيتين بانتزاع القدرة على إنجاز الاستحقاق الرئاسي بمعزل عن الأفرقاء جميعاً، فبات التوصل الى رئيس عبرهما محرجاً بين حقيقة الدور وطبيعة مستقبله وبين حجة التخلص من واقع مرير من سنوات الخلاف التي كان «يعتقد» أنها سبب في عدم التوحد لاختيار رئيس مسيحي قوي فما لبث ان تبيّن العكس وهنا دقة القضية.

عندما تفشل قوتان كبيرتان مثل التيار الوطني الحرّ والقوات اللبنانية عن حسم مصير الرئيس المسيحي إقليمياً ودولياً وتنجح في المقابل الوحدة بين حزب الله وحركة أمل باحتضان رئاسة مجلس النواب وينجح الرئيس سعد الحريري في دعم واختيار مرشح لرئاسة الحكومة تارة او دول الخليج تارة أخرى، فإنّ هذا يعني انكشافاً واضحاً لعبثية دور المسيحيين المغيّب فعلياً عن قيادة البلاد بالمعنى الحقيقي لها.

يتضح بشكل أكبر اليوم، واقع الرئاسة اللبنانية «الهزيل» ودورها في أحداث المنطقة وتتضح معها هشاشة المواقف التي كانت تطرح سابقاً، خصوصاً تلك المتعلقة بالأزمة السورية من قبل رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان التي كانت تبدو موقفاً حريصاً مستقلاً من قبل الرئيس الملتزم بالنأي بالنفس عن لبنان ليتبيّن ببقاء الفرضية «تطبيقاً» أنها لم تكن أصلاً نتيجة موقف رئاسي محلي، بل إنها ترجمة لموقف عربي موحّد تصدّرت دول الخليج طليعة المطالبين فيه.

إعادة النظر باتفاق الطائف الذي قلل من صلاحيات رئيس الجمهورية لصالح رئيس الحكومة بالمفهوم اللبناني المبسّط قد تكون واحدة من طرق إعادة موقع الرئاسة الى الهالة والمكانة المفترضة، وإلا فإنها تؤكد اليوم أنها لا تعدو كونها «ترفاً» سياسياً او أحد أشكال «الزينة» التي يتمايز بها لبنان عن محيطه العربي، لكونه الدولة الوحيدة التي يشغل كرسيها الرئاسي «مسيحي».

إعادة النظر بدستور الطائف الذي استنفد محتواه بعد استنفاد جدوى صدوره أيّ الحرب الأهلية لا يُعتبر تعدّياً على شكل الدولة أو مساساً بالتوازن الطائفي الذي إذا ما استمرّ فهو يعني بطريقة أو بأخرى عزلاً تدريجياً للدور المسيحي المهدّد أصلاً في الشرق الأوسط.

بات الدفاع عن هيبة رئاسة الجمهورية وضرورة تسيير البلاد في ظلّ وجود رئيس أهمّ بكثير من انتظار الخارج، وهنا لم يعُد يبدو تسيير أعمال الدولة من قبل رئيس الحكومة نوعاً من الإنجاز والقدرة على تخطي أزمة الرئاسة وإنقاذ البلاد من حافة الهاوية بل أصبح بمرور سنتين وثلاثة أشهر على الشغور «مبالغة في أداء الدور» و«إجحافاً» بحق طائفة برمّتها.

تلفت في هذا الأطار أسئلة كثيرة خلقتها أحداث عربية وشرق أوسطية تأخذ الجواب على فراغ الرئاسة في لبنان نحو مكان خطير جداً لا يتعلق بالأحداث الأمنية التي تعصف بالمنطقة، فالعراق في أسوأ أحواله الأمنية لم يعِش فترة شغور رئاسي أو برلماني أو حكومي ولا حتى ليبيا التي تعيش اليوم تفككاً مؤسسياً وأمنياً يُضاف الى هذا التجربة السورية التي عانت بدورها من حرب ضروس ولا تزال من دون أن تتخلّى عن مواعيد ومواقيت استحقاقاتها الرئاسية والبرلمانية والحكومية، إضافة الى إجراء تعديلات عديدة لم تعتبر إهانة او انتقاصاً من هالة النظام وحضوره بل إجراء بات ضرورياً اتخاذه من أجل الصالح العام. لبنان نفسه لم يعش شغوراً من هذا النوع في حروبه لا الأهلية منها ولا بمواجهة الاجتياح «الإسرائيلي»، فمن الذي يطيح اليوم بتمايز الرئاسة اللبنانية؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى