دومينو التفاهمات الروسية الأميركية… أيّ الأحجار ترنّحت؟!

سومر صالح

منذُ بداية الأزمة السورية ارتبطت المفاصل الحساسة في مسار الأزمة بمخرجات التفاهم الروسي الأميركي، والذي طغَّى على ما دونه من تفاهمات إقليمية أو حتى مشاورات دوليَّة وأممية، وكانت القاعدة العامة لتلك التفاهمات هي عدم بلوغ مرحلة الصدام المباشر، أو تطور الأزمة بما يسمح بحدوث هكذا سيناريو، وتناوب الطرفان الأميركي والروسي على تقديم التنازلات الممكنة بما يجنّب الطرفين سيناريو الكارثة بما فيه ضبط سلوكيات الحلفاء لتحقيق ذات الهدف، ابتداءً من حلّ أزمة الكيميائي السوري نهاية العام 2013 وصدور القرار 2118 ، وصولاً إلى صياغة إعلان فيينا الثالث الذي أتاح لروسيا إمكانية ضرب «جبهة النصرة» بتاريخ 17/5/2016، وشرعَّن وجودها في شرق المتوسط، وعلى مدى سنيّ الأزمة السورية الست، شقَّت المشاورات الروسية الأميركية مساراً طويلاً ومتعرّجاً اصطلح على تسميتهِ «المسار السياسي للحلّ» كانت ركائزه تفاهماتٍ مشتركة شكّلت الأرضية لهذا المسار، ولكن هذه الركائز بنيت استناداً إلى معطيات الميدان، وأصبح المسار السياسي هو التعبير الموازي عن مسار النتائج العسكرية في الميدان، وكانت كلّ محطة في هذا المسار السياسي تتضمّن كلّ ما سبقها من محطاتٍ سابقة وتفاهماتٍ مشتركة، انطلاقاً من القرار 2042 وصولاً إلى القرار 2268 ، ولعلّ الطرفين الروسي والأميركي رتبا تلك النقطة عن عمد ليضمن كلّ منهما أنّ انهيار أيّ مرحلة من التفاهمات المشتركة يعني قطعاً انهيار ما سبقها، وفقدان ما تلاها أيّ قيمةٍ حقيقة، وهذا الترتيب مردّه غياب الثقة المتبادلة، التي فاقمتها الأزمة الليبية، وهو ما يسمّى في علم السياسية «أثر الدومينو» ضمن تسلسلٍ خطي.

هذه السلسلة من التفاهمات المشتركة بلغت مرحلةٍ حرجة بعد أن أعلنت الخارجيتان الروسية والأميركية عن تفاهمات، وربما «اتفاق» 15 تموز الماضي والتي تضمّنت إمكانية تنفيذ ضربات مشتركة ضدّ «جبهة النصرة» الإرهابية، وخصوصاً أنّ هذه التفاهمات أتت في لحظةٍ مفصليةٍ في اختبار الصبر الروسي على تعثر أو تلكّؤ الولايات المتحدة في تنفيذ وعودها المبرمة مع الإدارة الروسية في إعلان «فيينا 3» بتاريخ 17/5/2016، وهو ما أكّد عليه وزير الدفاع الروسي شويغو في 25/5/2015 عن إمكانية تنفيذ روسيا لضربات أحادية الجانب ضدّ «جبهة النصرة» إذا لم تفِ واشنطن بتعهّداتها بفصل ما تسمّيه «معارضة معتدلة» عن «جبهة النصرة»، ولكن مع احتدام أم المعارك في حلب، نستطيع القول إنّ ناقوس الخطر بدأ يدّق مهدّداً سقوط اتفاق 15/تموز وهذا يعني في سياقٍ متصلٍ سقوط كلّ ما سبقه من تفاهمات تأسّس عليها هذا الاتفاق ضمن تأثير الدومينو، وهنا نغدو أمام ثلاث احتمالات: الاحتمال الأول أنّ الإدارة الأميركية تعي جيداً خطورة سقوط اتفاق 15 تموز لأنه يعني حكماً سقوط ما سبقه من تفاهمات، وبالتالي الإدارة الأميركية أرادت نسف كلّ تفاهمات أوباما ووزير خارجيته مع موسكو، بما يتيح للرئيس الأميركي الجديد حرية بناء تفاهمات أخرى بلا قيودٍ مسبّقة وهو ما يبرّر احتضان فصائل واشنطن لجبهة «فتح الشام» في رسالةٍ واضحة لنقض اتفاق 15 تموز ، والاحتمال الثاني، فهو أنّ الإدارة الأميركية بصمتها عن معركة حلب وزجّ كلّ أدواتها بالتحالف مع جبهة «فتح الشام ـ النصرة»، أرادت الرجوع إلى لحظةِ ما قبل إغلاق طريق الكاستيلو لتنفيذ اتفاق 15 تموز مع موسكو وتجميد خطوط السيطرة الميدانية في الشمال والانتقال إلى مسار جنيف وبجعبتها انتصار حليفتها «قوات سورية الديمقراطية» في منبج كقيمةٍ مضافة، وبخلاف ذلك، أيّ تنفيذ لـ اتفاق 15 تموز مع إحكام السيطرة الحكومية السورية على حلب كاملة يعني حسم المعركة استراتيجياً لصالح المحور الروسي السوري، وإجهاض أوهام واشنطن بالكونفدرالية التي تنشدها انطلاقاً من الشمال، وبالتالي أرادت الولايات المتحدة الاستفادة قدر المستطاع من الجهد العسكري لجبهة النصرة قبل «تقليم أظافرها» بحسب وعودها لروسيا، للعودة إلى خطوط ما قبل 26/7/2016 إحكام السيطرة على الكاستيلو ومنطقة الليرمون لأنّ المتفحّص جيداً لنصّ التفاهم المسرّب بين روسيا والولايات المتحدة يدرك جيداً أن لا نية أميركية حقيقية لاستئصال «جبهة النصرة» عن الخارطة الميدانية كما هو «الطموح الروسي»، أمّا الاحتمال الثالث فهو إقحام الجبهة الشمالية وربما الجنوبية لاحقاً في معارك استنزاف تمتدّ ربما إلى ما بعد الشهر الثالث من العام المقبل، ريثما تتبلور رؤية أميركية جيدة لمستقبل الصراع في سورية مع روسيا يستطيع معها الرئيس الأميركي الجديد إمّا متابعة مسار التفاهمات المشتركة أو نقضه… بناء على المعطيات الجديدة في العلاقة الروسية التركية، وبالتالي هنا حدود المراوغة الأميركية هي ذاتها حدود تطبيق «نظام الصمت» المطبق ابتداءً من 30/4/2016 باستثناء حلب، أيّ أنّ الإدارة الأميركية جنّبت نفسها خطر سقوط كلّ التفاهمات مع روسيا في سورية، واستمرت في المواجهة شمالاً…

انطلاقاً مما تقدّم نعتقد أنّ هنالك عاملين هما من سيحسما ترجيح أحد الفرضيات الثلاث، العامل الأول هو حاصل الاشتباك النهائي في الشمال السوري والثاني هو عامل الوقت الضاغط على إدارة أوباما قبل أن تدخل نهائياً في مرحلة تصريف الأعمال «البطة العرجاء»، وحتى تتجنّب الإدارة الحالية الحرج في اتخاذ قرار حاسم بشأن اتفاق 15 تموز من المرجح أن تلجأ إلى سيناريو إشعال جبهة الجنوب مثلاً، لضمان عدم إلزام الرئيس الأميركي الجديد بأيّ تعهّدات ملزمة، ولكن حتى لو تمكن أوباما فرضاً من وضع قرار تنفيذ التفاهمات المشتركة مع موسكو مجتمعة على طاولة الرئيس الجديد، تكون الإدارة الأميركية قد قامرت مسبقاً بإسقاط القرار 2254 على فرض موافقة الرئيس الجديد على استكمال مسار التفاهمات المشتركة مع موسكو، فهذا القرار أصبح فاقداً للصلاحية السياسية بالمطلق موضوعياً زمنياً وميدانياً ، وضمن أثر الدومينو السابق يسقط معه بيان جنيف الأول 2012 ، لأنّ طبيعة المعارك واحتضان أغلبية الفصائل المعارضة لتنظيم «جبهة النصرة» الإرهابي وعدم الالتزام بمبدأ وقف إطلاق النار كأساس لعملية سياسية موازية، يفرّغ القرار 2254 من مضمونه، هذا من جهة، ومن جهة مقابلة أيضاً القرار ذاته أتى لكبح فاعلية الدخول الروسي عسكرياً في صلب المعارك الدائرة في سورية، وقرار واشنطن الزجّ بالفصائل المحسوبة عليها بمعركة «استنزاف» مع المحور الروسي السوري، يرفع الحرج كاملاً عن موسكو في عدم تطبيق هذا القرار أو ما سبقه من إعلاني فيينا الأول والثاني، لأنّ الطرف الثاني وهو الولايات المتحدة ارتضى مسبقاً بهذه النتيجة عندما قرّر زجّ فصائله في معركة الاستنزاف تلك وانتظر نتائجها.

ختاماً… الميدان مشتعل ومرجّحٌ إلى مزيد من الاشتعال والتوسع جنوباً، ومن المرجح أيضاً أنّ الفصائل المحسوبة على تحالف واشنطن تتجه إلى الدخول في معارك استنزاف طويلة الأمد، ولكن الثابت أنّ هنالك إرادةً لا تلين من الجيش العربي السوري للحفاظ على المكتسبات النوعية في حلب، ومع ذلك تبقى الأعين شاخصة إلى القرار الروسي المرتقب في معارك الشمال لأنّ تداعياته ستؤثر على القرار الأميركي بطبيعة إدارة الصراع مع روسيا في سورية، وتدخلنا في متاهة أخرى من الاحتمالات والسيناريوهات… فهل يستمرّ مسلسل الصبر الروسي الممتدّ من 25/5/2016 أم أنّ للسوخوي الروسية وصواريخ مدمّرات البحرية الفيدرالية الروسية حسابات أخرى؟!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى