جديد السيد في فلسفة السياسة

ناصر قنديل

– كما في عرس النصر يُنتظر من سيد المقاومة على قناة المقاومة أن يستعيد سياق النصر ومندرجاته، أعاد السيد التأكيد على معاني النصر وحتمية اليقين بتكراره، فما تمّ مع الأصيل سيتكرّر مع الوكيل، ويعرض السيد لمعنى الشراكة مع سورية والحرب عليها، فالقضية قرارها المستقلّ، وخيارها المقاوم، واستكمال حرب تموز التي توقّف القتال فيها ولم تنته، «فصواريخنا في أغلبها كانت من سورية»، وفي هذه الحرب كما في تموز، الحلف نفسه يقابل المقاومة وحلفاءها. لكن السيد الذي يتدفق علماً في الاستراتيجية وعلوم الحرب والسياسة، لا يدع مناسبة التواصل مع جمهوره وصنّاع الرأي العام في العالمين العربي والإسلامي، إلا ويقدّم فيها جديداً يريد لهم أن يضيفوه إلى مخزونهم فيزيدهم منه ليراكم لديهم خبرة معرفية ومنهج فهم وتحليل، للظاهرة التي يؤمنون بها وعنها يدافعون. فالسيد لا يقود أمة المقاومة بالإمرة أو بالتنظيم وحدهما، بل بالصلة الافتراضية التي تقيمها الأفكار وتنتظمها المعارف للتكوّن كفلسفة للمقاومة، وتصير عقيدة تجمع أناساً لا يعرفون بعضهم بعضاً، ولا يعرفهم المقاومون ولا سيدهم، لكنهم يتكاثرون ويزدادون إيماناً بالمقاومة وسيدها، يمنحونهما المزيد من الثقة المؤسسة على ما يفوق الثقة بأنّ من أُنجز سيُنجز، وأنّ الأهلية للقيادة منحتها هزائم الأعداء وتسليمهم بالتفوّق الاستثنائي للمقاومة وقيادتها، وأنّ خير دليل على الإمكان هو الوقوع، فما تمّ يمكن أن يتمّ مجدّداً، بل وفوق كلّ ذلك تتأسّس الثقة لتصير مؤسسة، وعندما تتمأسس تزداد قوة ويرتقي بنيانها ليزداد صلابة. والأصل هنا لتشكل مدرسة من المفاهيم، التي يفيض بها فيلسوف معاصر وعالم سياسة وأستاذ حرب نفسية وجنرال حروب منتصرة لا مكان للهزيمة فيها، يتقن في كلّ من هذه معايير العلم ويزيدها.

– في خطاب النصر قدّم السيد فلسفته لصناعة النصر في الحروب، بعناصر الثبات والقرار الحاسم بالمضيّ رغم التضحيات إلى نهاية النهايات بلا تردّد ولا تراجع، وبالتمكّن من أسباب القوة، وتعميق المصداقية حول صدق ونبل الأهداف، وارتباطها العضوي بالدفاع عن البوصلة التي كانت ولا تزال وستبقى قتال «إسرائيل»، وبحماية الناس الذين كانوا ولا زالوا وسيبقون قوة المقاومة وحضنها لبلوغ الهدف، أما في حواره على «المنار» فالتفت ليغرف من معين السياسة ويضيف لمعاناً وبريقاً لخطابه بإضافة التدفق بمقولات جديدة، أهمّها اثنتان، يناقشهما علماء السياسة والثقافة والفكر، في محاولة تفسير مصادر قوة المقاومة، والتعرّف على منهجيتها، فيتوقّف السيد تصحيحاً لمقولة الزهد بالسلطة، ليقول إنها ليست زهداً بالمسؤولية. ويتوقف عند معاني النصر وأبعاده وشروط صناعته في حرب تموز، ليجدّد من زاوية مختلفة التوقف أمام يوم الرابع عشر من آب والزحف الشعبي إلى الجنوب، مقابل قرار أميركي بربط عودة الناس في آليات تطبيق القرار 1701 بجملة شروط تجعل العودة مستحيلة.

– في المسألة الأولى يكشف السيد للمرة الأولى عن مقولة غاية في الأهمية تكشف العمق الفكري لموقف المقاومة من السلطة. ومن الشأن الداخلي اللبناني كلّه، تصحّ معياراً أكيداً لكل عمل سياسي لحركة مقاومة أو كذلك لحركة إصلاحية، فيضع معادلة قوامها «لا يرد الفساد بالأفسد» ومضمونها الأعمّ والأوسع مدى من الجواب عن السؤال بعينه، أو في شرح الموضوعة بذاتها، هو السؤال عن نتائج الموقف وليس فقط عن أسبابه، فكثيرة هي الأسباب التي وجدها محللون وباحثون ومفكرون وأصدقاء للمقاومة لمطالبتها بالمزيد من التشدّد في مواقفها من المسائل الداخلية اللبنانية، وتوظيف أو تسييل فائض قوتها للتغيير السياسي. وللمرة الأولى يتخطى السيد في جواب المقاومة على المستائلين، العامل الأهمّ والتاريخي وهو الاكتفاء بالتدخل بالمقدار اللازم في آن لحماية المقاومة وسلاحها، ولعدم الضياع عن قضيتها والانغماس بقضية أخرى أشدّ جاذبية وأقلّ جدوى، فيدخل إلى فلسفة السياسة من واقعية الردّ على الردّ، ومن قال إنّ المزيد من التدخل لا يقع ضمن الضرورة اللازمة لمقدار حماية المقاومة. والخصوم في اللعبة الداخلية هم المتآمرون على المقاومة أيام الحرب، وعلى سلاحها قبلها وبعدها، ومن قال إنّ في هذا الاهتمام والتوظيف للقوة في مجال تصحيح الواقع السلطوي تيهاً عن قضية المقاومة، وليس توفيراً لشروط أفضل للتفرّغ لهذه المقاومة وقضيتها ومتطلباتها، بالتخلص من سبب استنزاف دائم، فيقول لا يردّ الفساد بالأفسد، ويشرح أنّ الحرب الأهلية أفسد من الفساد، فهي انتقال بالبلد والناس وأمنهم وأرزاقهم وشروط إدارة حياتهم وحرياتهم، من السيّئ إلى الأسوأ. والأسباب الموجبة للتدخل معنية أن تحسب بالمقدار الذي لا يؤدّي إلى الأسوأ، مهما كان نبل الظنّ والأهداف وصدق السعي، وفي تركيبة طائفية مشتعلة كلبنان، يجب أن يبقى هذا المحذور حاضراً كمحظور، لتدار السياسة وحركة التغيير ومساعي الإصلاح تحت هذا السقف. والمغزى الأعمق هنا، هو أنّ الحرب فساد أفسد من الراهن يأخذنا إليه دعاة المواجهة المفتوحة، فنتذكّر فوراً كيف ذهب جيلنا كله إلى الحرب الأهلية عام 1976 وفي ظنه أنّ صدق السعي للتغيير يكفي، فكان الأفسد بديلاً للفساد. وربما اليوم نفهم معنى دعوة إمام المقاومة يومها السيد موسى الصدر لعدم الانخراط بالحرب والسعي لوقفها بأيّ ثمن، ويقينه بأنها جاءت لقطع مسار إصلاحي سلمي مدروس ومتواضع وتراكمي كان له في إطلاقه يداً طولى. كما نفهم معنى التدخل السوري لوقف الحرب، والذي وصفه كثير من الوطنيين يومها بمنع النصر الذي كانت لقمته قد دنت من الشفاه، أما حيث يسقط محظور الحروب الأهلية والفتن، ولا يحضر التكوين الاجتماعي المتعدّد والهشّ لخطوط انقساماته كخطوط تماس سياسية قابلة للاشتعال، يتيح كلام السيد الاستنتاج أنّ حركات المقاومة تستطيع التفكير جدياً بحسم مسألة السلطة.

– في المسألة الثانية يقول السيد بين سطوره للذين يبحثون عن نقاط التفوّق التي تجعل للمقاومة فرص الفوز على قوى تقاتلها بالعنوان الكبير ذاته الذي يمثله الإسلام، مع استحضار القوى التكفيرية لتكون الجيش الوكيل الذي يكمل ما بدأه وفشل في إنجازه «الإسرائيلي» كجيش عدو أصيل، والكثيرون راهنوا على توازن لا يكسر في أيّ صدام بين المقاومة وتنظيم القاعدة، منذ كتابات مارتن أنديك في التسعينيات عن ضرورة السعي لإشغال ما أسماها بالجهادية الشيعية التي يمثلها حزب الله المقاوم لـ «إسرائيل» بحرب لا تنتهي مع الجهادية السنية، التي تشغل بال الغرب ويحتار بكيفية إدارتها، واحتوائها. وأساس الرهان على التوزان هنا، هو تعادل الفريقين في نقطة تفوّقهما على جيوش الغرب ومنها الجيش «الإسرائيلي»، وهي القدرة على بذل الدماء، وهنا يقدّم السيد تفسيراً عميقاً لنقطة التفوّق التي تملكها المقاومة على «القاعدة» وتسقط رهانات التوازن وتجعل النصر حليفها. فقيمة الإنسان في فهم ومنهج الفريقين ليست واحدة، سواء الإنسان المنضوي في المشروع نفسه أو الإنسان الواقف على ضفة أخرى، مع تباين مساحة تعريف الضفة الأخرى، ويضيء فهمه العميق عندما يستحضر الصفة الملازمة للمقاومة مرات عديدة، بقوله إنّ مقاومتنا شعبية، هي مقاومة شعب، وليست مجرد مقاتلين. أحد أسباب النصر في تموز هو الشعب الذي لم يهِن ولم يضعَف ولم يتنازل ولم يضغط لتنازل، بل زاد حماسة وثباتاً، وزحف يوم الرابع عشر من آب يكمل نصر المقاومين، بكسر حواجز العودة إلى الجنوب وتعبيد الطريق بالدم الذي قدّمته الناس لتأكيد قرارها بالعودة. والمقاومة الشعبية التي تملك ذراعها المسلح، هي مقاومة مسؤولة عن شعبها قوية به، معنية بهمومه واهتماماته، وشروط عيشه وأمنه واستقراره، وأرواح بنيه، وممتلكاته، لكنها مستندة إلى قوة هذا الشعب وولائه وثباته واستعداده للتضحية، فهي مقاومة الجدّ والأب والإبن والحفيد والزوجة والإبنة، ولذلك تنتصر، لأنّ كلّ حركة لا تملك جذوراً شعبية عميقة ستُهزم ولو كانت جيشاً بعشرات الآلاف. وهذا فارق جوهري بين المقاومة والقاعدة يجعل النصر لها.

– السيد أستاذ السياسة وضع بين أيدي محبيه ومحبي المقاومة درساً جديداً، يستحق من كثيرين تناولوا القضايا التي منحهم أجوبة عليها في العمق أن يمتلكوا شجاعة إعادة النقاش.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى