التركي يعيد التاريخ: بعد المأساة… هل تصدُق نبوءة ماركس؟

عامر نعيم الياس

«استبدال الإرهاب بإرهاب»، هذا ما أشارت إليه الخارجية السورية في بيانها الذي أدان الاعتداء التركي على الأراضي السورية. هذا الاعتداء الذي، وإن كان للتحليل السياسي مجالات واسعة في سبر أغواره ودوافعه وتوقيت حدوثه وربطه بالتطوّرات الإقليمية والدولية الأخيرة ربطاً بالحرب على سورية، إلا أن 24 آب 2016 الذي يصادف الذكرى السنوية الـ500 لمعركة مرج دابق بين المماليك والعثمانيين 24 آب 1516 والتي نقلت سورية من سلطة احتلال عبر طبقة حاكمة غريبة عنها، إلى سلطة احتلال دولة ومشروع لدولة أخرى دام 400 سنة، هذا التاريخ لا يبرّئ الأتراك، ولا يضع للصدفة والتحليل السياسي مكاناً راجحاً على المشروع التركي التوسعي في سورية، مهما تعددت أسبابنا ومعطياتنا حول تقلّص رقعة هذا المشروع ورضا الأتراك بمنطقة نفوذ على الأرض لا تأخذ بعين الاعتبار كامل الشمال السوري حيث المشروع التركي في نسخته الايديولوجية يستند على ضمّ حلب في سورية والموصل في العراق إلى تركيا الـ«نيوعثمانية».

تقلّص النفوذ التركي في سورية أم لم يتقلّص فإن التدخل العسكري التركي واحتلال جرابلس في سورية قد بدأ، واتجاهات التوسّع التركي في سورية لم تتضح بعد، ولا يمكن حتى اللحظة تحديدها بدقة، فالميدان السوري وتطوراته وتسارع وتيرة انقلاب التحالفات وتحوّلها، جعل من الصعوبة بمكان تحديد اتجاهات ومستقبل التطورات في الشمال السوري، حيث حلب الحاضر الأكبر حتى اللحظة في صوغ كامل المعادلة الحالية على الأرض والخرق الدراماتيكي لكامل الخطوط الحمراء، والتي بدأت بسيطرة الجيش السوري على الكاستيلو وحصاره المجموعات الوهابية المسلّحة في قلب مدينة حلب وتحديداً في أحيائها الشرقية، ولا تزال المعادلة الحاكمة لفعل كافة الأطراف هي من يربح حلب يربح الحرب في سورية.

إن الاحتلال التركي لجرابلس في هذا التوقيت هو محاولة لتكرار التاريخ وصفها كارل ماركس بقوله «التاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة»، نتمنى أن تحصل، لكن المهزلة هنا لا تقتصر على الأطراف التي تشتبك على الأرض السورية وتنكمش فيها طموحاتها التوسعية، بل الأثر البالغ الذي علينا الا ننكره يتعلق بالثمن الذي يدفعه السوريون، ووحدة وجغرافية سورية التي تعاني تحت ضغط الغرباء القابعين على هذه الأرض، ومشاريعهم بإقامة كانتونات إثنية تحل مكان الدولة القومية المركزية القوية الممنوع على الجميع التفكير بها، والتي يتم تثبيت عوائق قيامها بعيداً عن المشاريع الأخرى فاشلة كانت ام ناجحة.

ما سمّتهم أنقرة «ألوية الجيش الحرّ» هم عبارة عن مجموعات «تركمانية» لها ذات الأهداف الكردية وإن كانت تدار بشكل كامل من جانب حزب العدالة والتنمية، على عكس المشروع الكردي الذي يقوم على ايديولوجية ذاتية تحاول اللعب على أوراق التناقضات والصراعات الإقليمية والدولية في سورية، هذا الشروع الذي يتلقى صفعة من أنقرة مروراً بموسكو التي اختبرت استهانة الكرد بها في الحسكة، وليس انتهاءً بواشنطن التي لا تريد خسارة الورقة التركية نهائياً في المنطقة وفي الأطلسي، هنا تحضر زيارة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن إلى تركيا لتعكس وجود نية للمصارحة ووضع النقاط على الحروف بين البيت الأبيض و الرئيس التركي أردوغان، لا يمكن لوزير الخارجية الأميركي نقلها بل هي من اختصاص نائب الرئيس أوباما وحده، الذي بدوره أعاد تصويب الطموحات الكردية وضبطها تحت سقف السياسة الأميركية في سورية.

مستقبل الوجود التركي:

لم يغيّر الانقلاب في تركيا من أولويات الرئيس التركي ومشروعه في سورية، فهو لا يزال يحن إلى التاريخ، ولا يزال يريد الخروج بشيء ما في سورية، وأوراقه حاضرة في الداخل السوري والدليل الأكبر على ذلك انسحاب «داعش» من جرابلس وتسليمها للميليشيات التركمانية من دون مقاومة تذكر، فالبندقية «الداعشية» هنا تواجه الأكراد والجيش السوري، في هذ السياق يمكن القول إن الوجود التركي في سورية قد يسلك أحد الطرق التالية:

ـ المنطقة الآمنة بحكم الأمر الواقع في شمال سورية، فالتأييد الأميركي للتدخل الروسي باعتباره ضمن عمليات التحالف، والموقف الروسي الحذر من التدخل العسكري التركي في سورية والذي لا يرقى إلى الاعتراض القوي يضع أنقرة في موضع اختبار بعد تدخلها في سورية، ويرهن أي صدام مستقبلي معها بخطواتها المستقبلية، ربما هناك ما لا نعرفه عن توافقات جرت في لقاء أوباما بوتين منذ اسابيع.

ـ التوسّع التركي في المنطقة الممتدة بين جرابلس وأعزاز وطرد الكرد من كافة المناطق الواقعة غرب الفرات، وصولاً إلى الباب أو تادف حيث تريد تركيا تحصين المنطقة الفاصلة بين عين العرب وعفرين إلى أبعد مدى، هنا لا بد من القول إن التوسّع التركي قد يتم عن طريق تبادل الأدوار مع «داعش» الذي انسحب من جرابلس نحو داخل الريف الحلبي، إلى الباب، وإلى ناطق أخرى ربما تفسح في المجال أمام استعادة «داعش» مناطق نفوذ كان خسرها في مواجهة الأكراد، وفي مواجهة الجيش السوري. هذا ما تعكسه تجربة الحسكة، فـ«داعش» استغل ما جرى فيها وأعاد التقدم باتجاه الشدادي في ريف المحافظة.

ـ الانضباط التام بالتوافق مع الأميركيين والروس في سورية بانتظار بلورة تفاهمات سياسية معينة تعيد صوغ النفوذ في سورية بين القوى المتصارعة كلّ بحسب وجوده على الأرض، وهذا احتمال مستبعد في الوقت الحالي.

مما لا شك فيه أن فتح جبهات عدّة في وجه الدولة السورية في الشمال رداً على حلب والتقدم الميداني في دمشق، من شأنه أن يفقد الدولة المركزية بعض المناطق، لكن في ضوء الواقع الحالي فإن الرهان على تصادم أذرع واشنطن في شمال سورية هو الحل الوحيد المتاح على المدى المنظور.

كاتب ومترجم سوري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى