تثبيت المواقع على الأرض السورية قبيل انطلاق التسويات

سعدالله الخليل

على الطريقة الهوليودية السيئة الإخراج، والتي كُتبت سيناريواتها على عجل، سلّم تنظيم داعش «الإرهابي» مدينة جرابلس السورية لخليط من بقايا ما أطلق عليه يوماً من الأيام «الجيش الحر»، والذي أعيد تصنيعه أميركياً تحت يافطة «جيش سورية الجديدة» وفصائل على شاكلة «نور الدين زنكي» و«الجبهة الشامية» و«استقم كما أُمرت» بالإضافة إلى «فيلق الشام»، وقوة من المهام الخاصة المشتركة التركية، مدعومة بطيران التحالف الأميركي والطيران التركي.

عملية التسليم والتسلّم المفضوحة بين «داعش» وفصائل تركية انطلاقاً من الأراضي التركية، لا يمكن لأقوى ميديا في العالم أن تقنع بحسم تلك الفصائل لمعركة وجودية للتنظيم على الحدود التركية بأقلّ من 24 ساعة، خارج إطار الأمر التركي للتنظيم بالخروج، وإحلال لاعبين جدد على مسرح عمليات جرابلس، أما محاولات وكالة الأناضول التركية الرسمية تصوير المعركة بالعنيفة والمصيرية فلا تتعدّى محاولة ذرّ الرماد في العيون.

في العلن تبدو الخطوة على أنها سعي تركي لاستباق وصول وحدات الحماية الكردية إلى جرابلس، إلا أنّ امتناع القوات الكردية عن التوجه صوب جرابلس عقب السيطرة على منبج، تفسّره الخطوة التركية عشية زيارة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن إلى أنقرة ولقائه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بما يعكس التوافق الأميركي التركي على إحلال الجماعات التركية الأميركية محلّ تنظيم داعش في المناطق المتاخمة للحدود التركية، كمقدمة لتمدّد تلك الجماعات باتجاه منبج والباب لإخراج الأكراد من غربي الفرات، وهذا ما يندرج في سياق الضمانات الأميركية لأنقرة بحصر النفوذ الكردي بشرقي الفرات، وبالتالي من المتوقع معركة مسرحية قادمة تخرج وحدات الحماية من المناطق التي سيطرت عليها خلال الفترة الماضية لتحلّ محلها فصائل المعارضة المعتدلة بحسب القاموس الأميركي، الذي شاء أن تعود الروح إلى «الجيش الحر» الذي أكلته «داعش» و«النصرة» منذ ما يزيد عن عامين، ولم يعد له وجود سوى في صفحات التنسيقيات التي انتهت صلاحيتها مع دخول النصرة وداعش مشهد المعارضة المسلحة في الحرب على سورية.

ما كان يسرّب في الأروقة الأميركية خرج إلى العلن، فما كاد جو بايدن يعلن أنه طلب من الأكراد الخروج من المناطق التي سيطروا عليها بدعم أميركي غرب الفرات، حتى أعاد جون كيري النداء، فما كان من «قوات سورية الديمقراطية» إلا أن امتثلت وأعلنت في بيان تسليم مدينة منبج بعد انتهاء مهمتها، في استجابة لبقة تحفظ ماء الوجه، ليتبعه تصريح وزير الدفاع التركي بأنّ قواته ستبقى في شمال سورية حتى تتمكن وحدات «الجيش الحر» من فرض سيطرتها على الوضع هناك، وبذلك تتضح صورة الاتفاق الأميركي التركي بفرض ما يشبه المنطقة الآمنة غرب الفرات لتسيطر عليها ميليشيات تركية أميركية تحت غطاء الجيش الحر، فيما ينحصر النفوذ الكردي في شرق الفرات، ومع الإعلان التركي على لسان وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو عن دعم العمليات من عفرين نحو الشرق فإنّ أول الخاسرين سيكون الأكراد بانتهاء مشروع الإدارية الذاتية الذي سعى لترسيخه خلال السنوات الماضية، فيما الخسارة الأكبر تتمثل بالمشروع السياسي العسكري للأكراد. فبعد الإعلان الكردي عن الوقوف بمقدّمة المحاربين عن المشروع الأميركي في المنطقة، لم تعد لطروحاتهم أية قيمة ويذوب جاذب القضية والمطالب المحقة أمام منظر التابع والمنفذ للسيد الأميركي، كما تصبح تضحيات الشباب والنساء الكرد هباء حين تصوّرهم قياداتهم كمرتزقة يحاربون في خندق واشنطن لا دفاعاً عن تراب سوري لهم فيه حصة.

نجحت واشنطن بتحويل وحدات الحماية الكردية من فصيل مدافع عن قضية شعب في وطن، الى تجار عقارات همّهم التوسع في الجغرافيا السورية تحت وهم الفيدرالية المأخوذ من التجربة الأميركية، والذي استدعى تحوّل العلاقة مع الدولة السورية من التفهّم لمطالبهم واعتبارهم رأس حربة بمواجهة تنظيمات «داعش» و«النصرة» إلى خصومة اشتراها الأكراد بتحريض أميركي. وحسناً فعلت الدولة السورية بالانتظار لتتضح المرامي الكردية بأحداث الحسكة، واليوم بات على الأكراد الاختيار ما بين سوريتهم أو تبعيتهم لواشنطن، خاصة أنّ نقاط وقف إطلاق النار بأحداث الحسكة يتضمّن بنود نقاش القضية الكردية مع الدولة السورية.

قبيل أيّ انطلاقة لمفاوضات محتملة حول الشأن السوري سواء في جنيف أو أيّ من المحافل الدولية، رتبت واشنطن مناطق نفوذ أتباعها من الأكراد والأتراك بين شرق الفرات وغربها، وأعطت لكلّ منهم حدوده القصوى لضبط إيقاع المفاوضات بما يرسخ النظرة المتراكمة خلال عقود بأنّ واشنطن لا تبني شراكات سياسية بل تربّي أتباعاً لاستثمارهم بالمفاوضات في مرحلة جني الغنائم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى