اللوبي الأسود في البيت الأبيض

أسامة العرب

في العام 1789 ألقى بنجامين فرانكلين أبرز مؤسسي الولايات المتحدة الأميركية خطاباً أمام المجلس التأسيسي لوضع الدستور الأميركي، وطلب فيه موافقة المجلس على طرد اليهود من الولايات المتحدة. ومما قاله في الخطاب: «أيّها السادة: في كلّ أرض حلّ بها اليهود أطاحوا بالمستوى الخُلقي وأفسدوا الذمة التجارية فيها، ولا يزالون منعزلين لا يندمجون بغيرهم، وقد أدّى بهم الاضطهاد إلى العمل على خنق الشعوب مالياً، كما هو الحال في البرتغال وإسبانيا .فإذا لم يُبعد هؤلاء عن الولايات المتحدة بنص دستورها فإنّ سَيلهم سيتدفق إلى الولايات المتحدة في غضون مئة سنة إلى حدّ يقدرون معه أن يَحكموا شعبنا ويٌدمّروه ويغيّروا شكل الحُكم الذي بذلنا في سبيله دماءنا وضحّينا له بأرواحنا وممتلكاتنا وحرّياتنا الفردية .ولن تمضي مئتا سنة حتى يكون مصير أحفادنا أن يعملوا في الحقول لإطعام اليهود، في حين يبقى هؤلاء في بيوتهم يفركون أيديهم مُغتبطين. وإنني أحذركم أيها السادة، أنّكم إن لم تُبعدوا اليهود نهائياً فلسوف يلعنكم أبناؤكم وأحفادكم في قبوركم، إنّ اليهود لن يتّخذوا مُثلنا العليا ولو عاشوا بين ظُهورنا عشرة أجيال، فالفهد لا يستطيع إبدال جلده الأرقط .باختصار، اليهود خطر على هذه البلاد، وإذا ما سمح لهم بحرية الدخول فإنهم سيقضون على مؤسساتنا كافة، ولهذا لا بدّ من أن يتمّ استبعادهم بنص في الدستور».

ما تنبأ به فرانكلين وحذّر منه قبل قرنين من الزمن، ها هو يتحقق اليوم بكامل صورته ويتجلى في سيطرة اللوبي الصهيوني على مناحي الحياة كافة في الولايات المتحدة الأميركية، لا بل أصبح هذا اللوبي هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة باختيار حاكم البيت الأبيض، ولهذا كان شمعون بيريز يردّد سابقاً: «نحن الشعب اليهودي نحكم أميركا والأميركيون يعلمون ذلك». حيث يبلغ عدد اليهود في أميركا 1,7 فقط من عدد سكانها، فيما تقدّر ثرواتهم بنحو 28,16 تريليون دولار أميركي، أيّ ما يجاوز 50 من ثروة الشعب الأميركي، وما يجاوز أيضاً الدين العام الأميركي بـ 9 تريليونات دولار، وما يفوق بكثير ميزانيات ومداخيل ثلثي دول العالم، أيّ 152 دولة. وبحسب موقع المكتبة الافتراضية اليهودية فإنّ «أغلبية أموال إسرائيل تأتي من تبرّعات اليهود الصهاينة في أميركا»، أما بحسب تقرير«بيلزاريان ريبورت» فإنّ «80 في المئة من كبار المديرين وأصحاب المناصب الكبرى في الولايات المتحدة هم يهود أو متزوّجون من يهود».

ويستخدم اللوبي الصهيوني، عبر منظماته العديدة في الولايات المتحدة، المال لاستمالة أعضاء الكونغرس، كما استطاع على مدار السنوات السابقة محاربة كافة أعضاء الكونغرس الذين حاولوا الوقوف إلى جانب الحق الفلسطيني، متّهماً إياهم بـ«معاداة السامية». أما «اللجنة الإسرائيلية الأميركية للشؤون العامة» واختصارها «أيباك»، فتشكلّ المنظمة الأهمّ والأقوى والأكثر نشاطاً وتأثيراً في مجموعة اللوبي الصهيوني واليهودي، لكونها تضمّ مؤسسات وشركات وأفراداً وصناديق أموال علنية وسرية ومراكز دراسات متخصصة وشبكة واسعة من المنظمات السرية والعلنية التي تعمل جميعاً من أجل تحقيق أهداف تصبّ جميعها في مصلحة اليهود والصهاينة، وأبرزها: الحفاظ على وحدة «الشعب اليهودي» عبر تجميعه في «إسرائيل» عن طريق الهجرة والمحافظة على هويته وحماية الحقوق اليهودية في كلّ مكان والدفاع عن الكيان الصهيوني وتوفير مستلزمات أمنه واستمرارية وجوده.

وقد نجح هذا اللوبي بالتأثير في الرؤساء الأميركيين واستمالتهم لخدمة اليهود و»إسرائيل» ابتداءً من روزفلت اليهودي الأصل وانتهاءً بأوباما، حتى عبَّر الكاتب اليهودي الأميركي جون بيتر عن ذلك بقوله: «إنّ الرؤساء الأميركيين ومعاونيهم ينحنون أمام الصهاينة كما ينحني العابد أمام قبر مقدّس. ولعلّ الصورة الملتقطة لجورج بوش الابن وهو واقف في خشوع يصلي أمام ما يسمّيه اليهود بحائط المبكى في القدس لأكبر دليل على قوة الأيباك، ومدى تحكمه بمفاصل الحياة الأميركية كافة. وخير دليل على صحة ما تقدّم أيضاً، أنّ الرئيس الأميركي باراك اوباما سبق أن أعلن عن توجّهه بالقبول بإقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح فوق الأرض الفلسطينية التي تمّ احتلالها إثر عدوان الخامس من حزيران عام 1967، لكن عندما تصدّى له رئيس حكومة العدو الصهيوني نتنياهو رافضاً القبول بمثل هذه الدولة، ومدّعياً بأنّ إقامتها تشكل خطراً يتهدّد أمن الكيان الصهيوني بذريعة أنّ حدودها تجعل الكيان غير قادر على الدفاع عن نفسه، فما كان من أوباما إلا أن رضخ وتراجع عن موقفه الأخير أمام مؤتمر الايباك بعد أيام قليلة بسبب قدرة هذه المنظمة على التأثير في الانتخابات الأميركية، سواءٌ أكانت الانتخابات الرئاسية أم انتخابات الكونغرس.

وفي تاريخ أميركا، لم يسبق أن دعي لثلاث مرّات رئيس دولة أجنبية ليلقي خطاباً أمام الكونغرس إلا اثنيْن فقط: ونستون تشرشل وبنيامين نتنياهو، لكن خطاب نتنياهو سجّل سابقة جديدة: ألا وهي أن يقوم حزب أميركي مؤثّر بتوجيه دعوة له فقط لكي يهاجم الرئيس الأميركي وينتقد سياساته. هذا عدا أنّ الاحتفاء به تمّ بطريقة مُفخّمة جداً، وبحفاوة لم يَشهد لها أيّ رئيس أميركي مثيلاً من قبل، ما جعل العالم كلّه يتساءل ما إذا كان بنيامين نتنياهو هو الرئيس الفعلي لتلك البلاد؟

كما ظهر أثر هذا اللوبي أيضاً في التنافس بين المرشحين الحاليين لرئاسة البيت الأبيض، حيث جعلوا برنامجهم الانتخابي محصوراً بالترويج ليهودية الدولة الإسرائيلية ومحاربة خصومها. وقد سبقت المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون منافسها الجمهوري، في التحدث أمام جمهور لجنة «أيباك» واتهمته بأنه فضل البقاء «حياديّاً» في مسألة النزاع «الإسرائيلي» الفلسطيني، وبأنه «لم يقدم الالتزام الحقيقي لإسرائيل»، ولهذا السبب فقط فإنه وبحسب رأيها «لا يستحق أن يكون رئيس الولايات المتحدة المقبل». كما أضافت بأنه «يجب أن يتمّ الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية إلى جانب الدولة الفلسطينية وعلى الزعماء العرب أن يطبّعوا معها على هذا الأساس». أما ترامب ففور سماعه بتصريحات كلينتون، سارع لنفي حياديّته المزعومة، مؤكداً بأنه عنصريّ وبأنه «في حال انتخب رئيساً للولايات المتحدة، فإنه سيعترف بالقدس عاصمة موحّدة لإسرائيل وسينقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس»، كما أضاف بأنّه «على الفلسطينيين أن يأتوا إلى الطاولة وهم يعتزمون قبول إسرائيل دولة يهودية، وبأنها ستظلّ موجودة للأبد كدولة يهودية لا محالة».

وأخيراً، قد يكون بنجامين فرانكلين قد تنبأ سابقاً بأن يأتي يوم ويحكم اليهود الصهاينة الولايات المتحدة، أو أن يأتي مستقبلاً رئيس أميركي كترومان ليقول: «إنني قورش… إنني قورش، مشبّهاً نفسه بالملك الذي أعاد اليهود من منفاهم في بابل إلى فلسطين». لكنّه لم يكن ليتوقع أبداً أن يتحكّم برؤساء بلاده رؤساء دولة الاحتلال، ولا أن تصبح سياساتهم أداة لإقامة «الدولة اليهودية»، ولمصادرة القدس والأقصى وتهويدهما. ولهذا، فلا يراهننّ أحد على الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة لإيجاد حلول للقضية الفلسطينية وللأراضي العربية المحتلة وللقضاء على الإرهاب التكفيري في الشرق الأوسط، لأنّ كلّ رئيس أميركي جديد سوف يكون محكوماً بكلّ تأكيد من اللوبي الصهيوني، فيما تبقى المقاومة طريق التحرّر الوحيد، مذكرين دوماً بقول ديغول الشهير «لا ينبغي لنا أن نتوقف عن العمل المقاوم، ولن نتوقف أبداً».

محام، نائب رئيس

الصندوق الوطني للمهجرين سابقاً

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى