نصيحة نصرالله…

روزانا رمَّال

يعيش السوريون شيئاً من الدهشة الممزوجة بغرابة المشهد الممتد بين إحساس بانتصار استراتيجية الجيش السوري من جهة، وبين التساؤل حول ما يتمّ بسلاسة على الأرض السورية بين تسليم المسلحين أنفسهم للدولة للانتقال بهم الى بقعة أخرى أكثر أمناً من دون الأخذ بعين الاعتبار فرضيات عديدة أبرزها «العقائدي» مثلاً، من جهة اخرى، ليصبح الغموض عنوان المرحلة المقبلة في فهم ما وراء الحراك المتطرف في سورية وقبلها العراق والمنطقة وحتى العالم.

عملت التنظيمات الارهابية على مدى خمس سنوات للترويج لفكر متطرف يقتضي عدم المساومة على قضية تعتبر الأهمّ من عمر أيّ «مجاهد»، فكلّ ما يبذل يجمع تراكماً من الإنجازات لتعزيز وتجذير «العقيدة» فكانت الخطابات والدروس العقائدية مع الفيديوات الترويجية منصبّة لتجنيد المسلحين ومع شعارات وفتاوى اسست لدولة تحمل الكثير من الأسرار والشرور التي غذّت امتدادها، فبات شعار «داعش» التنظيم الذي ظهر في نصف الازمة السورية تقريباً «باقية وتتمدّد». فكل الجبهات كانت بالنسبة للتنظيم متصلة وقادرة على تشكل مدى واسع للدولة المنشودة من سورية حتى فرنسا فالعالم. الأمر نفسه عند باقي التنظيمات الخارجة من منطوق «إسلامي شاذ» مثل جبهة النصرة وحركات تكفيرية تحت مسمّيات متعددة مثل «فتح الشام» مع هدف جامع واحد.

كثرت الأمثلة خلال الأزمة السورية التي كان من شأنها تعزيز الشكوك حول حقيقة هذه الدولة «الحلم». فالصراع العقائدي الايديولوجي عسكرياً شكل المعضلة الأكبر في أي معركة ميدانية. فغالباً ما يجد المقاتلون صعوبة حقيقية في مواجهة مَن هم مستعدون لتقديم اغلى ما عندهم مثل «الروح» مقابل الهدف المنشود القادر على منحهم «ثواب الآخرة» وفق تلك الرؤية. كيف إذا كان الأمر نشر «دين جديد» في أرجاء الأرض ضمن تلك المنظور؟

تحضر أمثلة لافتة مثل مفاوضات الدولة اللبنانية لإخراج عسكرييها المختطفين لدى جبهة النصرة. وهي فرع تنظيم القاعدة في بلاد الشام والتي تحارب باسم الإسلام ايضاً واضعة بوجهها بفيديوات منشورة قتال «النصارى» المسيحيين والدروز والروافض أيّ «الشيعة» في لبنان الذين تعتبرهم «كفاراً» يتوجب التخلص منهم مع وقوع الحرم الشرعي بالتعامل معهم. واذا بالتنظيم يفاوض عبر وسطاء إقليميين مثل «قطر»، فنجحت الوساطة بدلاً من أن يكون مبدأ التفاوض والمساومة غير وارد اساساً لا من قريب ولا من بعيد، باعتبار انه لا يمكن الاعتراف بالدولة اللبنانية «الكافرة». فكيف بالتالي تنفيذ رغباتها؟

بالعودة إلى سورية عدد من التسويات جرت في مساحات للمعارك الأكثر ضراوة بين الدولة والمسلحين وبعض المناطق التي سيطر عليها إرهابيون من أصل سوري أخلت على أساسها المجموعات المتطرفة نفسها للدولة مقابل الانتقال من مكان الى آخر أكثر أمناً، بعدما حوصرت تحت ضربات الجيش السوري وحزب الله، بحيث لم يعد ممكناً المكابرة لتكشف عملية التسلم والتسليم في داريا أبعد بكثير مما يمكن اعتباره نقطة انتصار في جعبة الجيش السوري وحلفائه. فالأمر ليس مسألة انتصار بالقدر الذي يشكل «استسلاماً عقائدياً» وانهيار لفكرة «الاستماتة» من أجل الانتصار على الجيش السوري. فبات ما كان من المفترض اعتباره «محالاً» سابقاً عند تلك المجموعات «ممكناً» اليوم من دون أيّ مكابرة لينكشف الارتباط الوثيق بين عمل المجموعات المسلحة و»القرار السياسي»، حيث لم يعد ممكناً التوقف عند فكرة بناء «دولة إسلامية» خارج إطار القرار القادر على نسفها في دقائق معدودة.

تتدحرج الانتكاسات التي يعيشها تنظيم «داعش» من العراق الى سورية تحديداً الشمال السوري، حيث المساحات الكردية على يد الجيش التركي من جهة والجيش السوري، واذ بعملية الاستسلام والانهيار في داريا الاستراتيجية جداً بالنسبة للنظام تتزامن مع تلك اللحظة المفصلية موحية باتفاق غير مباشر بين الأجهزة الأمنية التركية والأجهزة الأمنية السورية يتضمّن رفع اليد في مناطق والضغط في أخرى والتسلم والتسليم تدريجياً ضمن المرحلة الجديدة المقبلة، فتنهار الوحدات الامنية المتطرفة التي عززت وجودها لأكثر من ثلاث سنوات بسحر ساحر وسلاسة كاملة واستسلام مثير.

تأتي لحظة الدهشة من خطاب أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله بتوجّهه للمسلحين أن «ألقوا سلاحكم واستسلموا» فيأتي الانهيار الكبير في داريا ترجمة لحديثه ليؤكد على ما يُحاط به السيد نصرالله من أجواء دولية وإقليمية تؤكد على قرار نهائي في إنهاء المجموعات المتطرفة بالأشهر المقبلة على ضوء التقدم الروسي بالمنطقة، وسحب فرصة تجيير انتصار اميركي في مكافحة الإرهاب دون تعاون مع موسكو، بعدما ثبتت قدرة سورية وحلفائها تُضاف اليهم الصين حديثاً، على تحرير الارض السورية تدريجياً من دون اللجوء للغرب الذي بدأت كتله السياسية كالاتحاد الأوروبي بالاهتزاز بالانسحاب البريطاني منه، وهنا بات القرار الأميركي في عدم إفساح المجال لروسيا بالاستفراد بحلف يؤسّس لحضورها القوي بالمنطقة مستقبلاً ليبدو الاستسلام للتعاون الأميركي التركي مع روسيا لا مفرّ منه.

كلام نصرالله للمسلحين يؤكده استسلامهم في داريا. فنصرالله الخبير في الحروب العسكرية والنفسية بدا وكأنه يعرف تماماً بماذا «ينطق» لحظة استغرب الكلّ من جدوى خطابه للمسلحين، لتتبيّن لاحقاً ركاكة القرار والايديولويجة والموقف و»اقتراب النهاية». فانتصار داريا أسرع بكثير مما كان أكثر المتفائلين يتوقعه. يدرك السيد نصرالله جيداً أنّ شيئاً من تلك الدولة المتطرفة الموعودة لن يكون موجوداً، ويدرك المسلحون اليوم أكثر أنّ الاستغناء عنهم بقرار سياسي بات حقيقة تقترب يوماً بعد الآخر… فهل تصل أخيراً نصيحة السيد نصرالله؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى