الإمام الصدر انتصر… رغم إخفائه

العميد د. أمين محمد حطيط

خسر لبنان منذ مطلع الحرب الكثير من شخصياته العامة العاملة في الدولة والمجتمع، ولكن شكلت حالة إخفاء الإمام السيد موسى الصدر حالة فريدة من نوعها من بين جميع حالات التعرّض للقياديين السياسيين اللبنانيين، وتكمن فرادتها في طبيعة الشخصية المستهدفة لكونها شخصية دينية سياسية، وطريقة الاستهداف والنيل منها عبر دعوة رسمية وجّهت من قبل رئيس دولة أقدم على إخفاء الضيف المدعو، والأكثر إثارة في الحالة هو طريقة التعاطي القضائي والسياسي اللبناني والدولي مع القضية، وهو تعاطٍ سهّل على الجاني تمرير الوقت لطمس معالم الجريمة وأدلتها، رغم أنّ الوقت لم يفلح في طمس الحدث بل زاد القضية أهمية وتوقداً في نفوس مَن كان الصدر يشكّل لهم بصدق رمزاً وقيادة وقدوة.

أما عن خلفية الإخفاء، فإنه من الظلم أن يُقال انّ اختلافاً لفظياً عارضاً وقع بين معمر القذافي والإمام السيد موسى الصدر في اجتماع عقد خرج القذافي بنتيجته غاضباً وقرّر القتل وإخفاء الجريمة للتنصّل من تبعاتها، وطبعاً ليس لعاقل أن يُصدّق بأنّ الإمام غادر ليبيا لجهة معلومة أو مجهولة فقد أثره فيها، وكأنه رجل عادي ليس لديه مؤسسة تتابع حركته، إنما الحقيقة العلمية التي يقودنا إليها المنطق والتحليل العلمي السليم، انّ السيد الصدر استهدف بمخطط دولي رمى إلى شطبه من المعادلة اللبنانية التي كانت ميداناً للتحرك لينتج فيه دخاناً يحجب الصلح المصري مع «إسرائيل» ومسرح قتال يُراد منه تهجير المسيحيين وتوطين الفلسطينيين مكانهم.

فالإمام الصدر كان ركناً رئيسياً لا بل الشخصية الرائدة والأساس في مقاومة المشروع الجهنمي الذي استهدف لبنان ومسيحييه خاصة، ومن خلاله استهدف القضية الفلسطينية والحقوق العربية والإسلامية في فلسطين، لذلك كان الصدر صريحاً وواضحاً ومجاهراً في مواقفه وتحالفاته في سلوك تجلى بما يلي:

1 ـ التحالف الواضح والاستراتيجي مع سورية بقيادة الرئيس حافظ الأسد الذي بادر إلى إرسال جيشه إلى لبنان ليطفئ الفتنة – الحرب الأهلية ويمنع تهجير المسيحيين ويمنع تقسيم لبنان ويمنع التوطين فيه.

2 ـ رفض الحرب الأهلية والامتناع عن المشاركة فيها، رغم أنه كان لديه فصيل مسلح أطلقه من أجل مقاومة «إسرائيل» في سياق تطبيق نظرية «المجتمع المقاوم»، وقد أطلق الإمام الصدر «أفواج المقاومة اللبنانية» أمل في مهمة محدّدة هي حماية لبنان من الخطر «الإسرائيلي»، ورفض إشراكها في الحرب الأهلية مما جعله يصطدم بالكثير من الفصائل الفلسطينية واللبنانية التي شاركت في الحرب والتي ضغطت عليه للنزول الى الميدان، ولكنه أصرّ على رفضه واعتصم لأيام طويلة في مسجد العاملية، قائلاً: «لا للفتنة لا للحرب الأهلية».

3 ـ رفض تهجير المسيحيين وأطلق كلمته الشهيرة يومها «كلّ رصاصة تطلق على كنيسة أو بيت مسيحي إنما هي قذيفة تطلق على عمامتي ومحرابي»، ولا أنسى ذاك اليوم من تموز 1975 عندما ذهب الى البقاع إثر تعرّض بلدة القاع المسيحية لاعتداء فتنة، قصد البقاع رغم الخطر الأمني وجال في القرى المسيحية مطمئناً وقائلاً: «أنتم في عيوننا وقلوبنا نحتمي بكم وتحتمون بنا». سمعتها منه في خطابه في كنيسة راس بعلبك وكنت يومها ضابطا ًمكلّفاً من قبل الجيش اللبناني بمهمة عسكرية دفاعية في محيط البلدة.

4 ـ رفض توطين الفلسطينيين ولا ينسى أحد كلمته في خطبة جمعة في العاملية التي قال فيها إنه يرفض «التوطين لأنّ فيه تصفية للقضية وظلماً إضافياً يقع بحق الفلسطينيين واللبنانيين على حدّ سواء».

لقد تجلّى الإمام الصدر في فكره الاستراتيجي المؤسسي وممارسته العملية التي تجسّدت ميدانياً في مقاومة المشروع الصهيو ـ أميركي انطلاقاً من لبنان، بالإضافة إلى نهجه الإصلاحي التطويري للنظام السياسي بما يرفع الحرمان عن اللبنانيين أيّ كان دينهم ومذهبهم ولهذا أطلق «حركة المحرومين» حركة اجتماعية سياسية وطنية عابرة للطوائف والمناطق تهدف إلى إصلاح سياسي واجتماعي وإنماء متوازن، يؤدّي إلى تثبيت أهل الريف في أرضهم ومنع تشكل أحزمة الحرمان حول المدن… حركة تعطي المحروم المظلوم حقه وتنصفه من الدولة والمجتمع على حدّ سواء.

ولكن مخطط شطب الإمام موسى الصدر من المعادلة اللبنانية لم يكن برأينا، بسبب مواقفه الإصلاحية التطويرية ولم يكن الرئيس الليبي معمر القذافي الذي أخفاه وحده في هذا المخطط، لا بل قد يكون المخطط الدولي الرئيسي استغلّ القذافي وأوكل إليه أمر التنفيذ فقط، أما صاحب المشروع الحقيقي الكبير فهو المعني بتصفية القضية الفلسطينية، وبالتالي غيّب الإمام الصدر لتمرير المشروع الإجرامي الذي كان يستهدف لبنان وفلسطين على السواء وذهب الإمام ضحية مواجهته للمشروع. فهل نجح المخطط؟

إنّ مَن ينظر اليوم في واقع الحال في لبنان والمنطقة، يجد انّ رفض الصدر لهذا المشروع لم يسقط بغيابه، حيث استمرّ النهج العملي في رفض «إسرائيل» ورفض مشروعها، وكانت المقاومة التي تحمّلت مسؤولية الرفض رداً ميدانياً هاماً على مخططي إخفاء الإمام الصدر، مقاومة نهلت من فكر الصدر ونهجه وتطوّرت وتنامت مع تعدّد تسمياتها حتى وصلت اليوم الى مستوى يشكل الردّ الاستراتيجي ضدّ مخططي التغييب، فالذين شاؤوا أن يشطبوا الإمام الصدر ومقاومته للمشروع الصهيو ـ أميركي من المعادلة اللبنانية ليكون لبنان معبراً لتصفية القضية الفلسطينية، وجدوا أنفسهم اليوم أمام مقاومة تشكل رقماً صعباً في المعادلة الإقليمية ومنفتحة على أن تكون ذات تأثير في العلاقات الدولية العامة التي عليها يُرسى النظام العالمي الجديد.

وبالتالي نقول قد يكون المجرمون ربحوا ظاهراً في إخفاء شخصية عملاقة كشخصية الإمام موسى الصدر شخصية تعمل للقضية اللبنانية والعربية وحرموا لبنان من فكره وعمله، لكنهم فشلوا في الوصول إلى هدفهم في إسقاط لبنان او استباحته لـ «إسرائيل» او اعتباره جائزة ترضية لأحد، وبقي لبنان واحداً لكلّ أبنائه لن يُقسَّم، ورفض التوطين ولن يقوم، حصل كلّ ذلك بفعل المقاومة التي يفخر لبنان بها، وبفعل تلك الثلاثية التي آمن الصدر بها بنظرية الشعب المقاوم والجيش الحامي للوطن والمقاومة الملتزمة بالحقوق الوطنية… وبذلك انتصر الصدر رغم إخفائه.

أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى