زاسيبكين لـ«البناء»: بدأنا بصنع مفتاح الحلّ في سورية

هتاف دهام

لن تكون المرحلة المقبلة في سورية والمنطقة سهلة على الإطلاق. الحروب مستمرة في الإقليم منذ ست سنوات. تزداد الأمور تعقيداً ما دام الحلّ مفقوداً. طالما أنّ التطرف يزداد تطرفاً والإرهاب يزداد إرهاباً.

لن تتخلى موسكو عن حراكها الدولي والإقليمي لإيجاد تسوية للأزمة السورية. تبذل جهوداً حثيثة في هذا السياق. توازي المقاربة الروسية بين الضربات الجوية ضدّ داعش والنصرة ومن يدور في فلكهما، وبين مساعيها لحلّ سياسي بعيداً عن الحلّ العسكري وإسقاط النظام وشخصنة الأزمة ووضعها في إطار تنحي الرئيس السوري بشار الأسد.

أقرنت روسيا تواجدها العسكري الجوي في سورية للقضاء على الإرهاب بنجاحها في تغيير مواقف بعض الدول الغربية والإقليمية تجاه الأزمة السورية، لا سيما الولايات المتحدة الأميركية وتركيا. بعدما دقت تفجيرات الانتحاريين أبواب العواصم الغربية. ربما لن تكون روسيا بمنأى عن ذلك، إذ إنّ قسماً لا يستهان به منهم أتى من بلاد شمال القوقاز. وبالتأكيد لم تتدخل موسكو فقط في دمشق لحماية الحليف السوري، ولكن أيضاً لحماية سيادتها من إرهاب قدمت عناصره من القوقاز الروسي وأوزبكستان وطاجيكستان. فتدخلها استراتيجي في الدرجة الأولى.

رغم ذلك، فإنّ المفاوضات السياسية الجارية بين الإدارتين الروسية والأميركية، في الوقت الضائع قبيل إجراء الانتخابات الأميركية سيقابلها استثمار في الميدان لإحداث تغيير يكون بمثابة ورقة ضغط على طاولة المفاوضات في المرحلة المعقدة أياً كان الرئيس المقبل.

دفع تحليق الطائرات الحربية في فضاء دمشق منذ 11 شهراً وإجراء البوارج الحربية الروسية الراسية مناورات في بحر قزوين، مسارعة واشنطن التنسيق مع موسكو والتعاون متخطية مفهوم الأحادية. حصلت لقاءات على أكثر من صعيد. آخرها يوم الجمعة الفائت بين وزيري خارجية البلدين جون كيري وسيرغي لافروف. سيعقبه في الساعات المقبلة اجتماع بين المستشارين العسكريين من البلدين. وربما تتوّج هذه اللقاءات غداً الأحد بلقاء بين الرئيسين باراك أوباما وفلاديمير بوتين على هامش قمة العشرين. فضلاً عن اللقاءات الثنائية التي سيعقدها الطرفان كلّ على حدة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.

في خضمّ الأحداث الميدانية لا سيما مع التدخل التركي في سورية، فإنّ لقاء كيري – لافروف إيجابي ومثمر. التكتم عما دار في أروقة الاجتماعات دليل صحي. وصلت الأطراف، كما يقول السفير الروسي في لبنان الكسندر زاسيبكين لـ «البناء» إلى مرحلة تقارب معينة بشأن ضمان وحدة سورية في إطار الحلّ المستقبلي، وتوفير مشاركة شاملة للأطياف السورية كلها في التسوية السياسية. سيلتقي الخبراء العسكريون الروس والأميركيون في الساعات المقبلة من أجل اتفاق نهائي بشأن التنسيق في حلب، والعودة إلى وقف العمليات العدائية، وفك الارتباط بين المجموعات المسلحة وجبهة النصرة. لكن يبقى أنّ من السابق لأوانه تقييم هذا الأمر والقول إنّ تقدّماً ملموساً حدث.

يقرأ السفير الروسي العائد من إجازة استمرت شهرين في بلاده، التنسيق مع الأميركيين على درجات معينة، بدأ منذ اليوم الأول للمشاركة الروسية في سورية، كي لا تقع صدامات. فضلاً عن الاتصالات بين العسكريين في قاعدة حميميم وجنيف والأردن، بغضّ النظر عن المواقف الأميركية والتصريحات النافية. ربما الأميركيون، كما يقول زاسيبكين، لا يريدون في سياق تكتيكي الإفصاح عن تقدّم، في حين أننا ننقل الأحداث بواقعيتها وسنبقى نؤكد أنّ التنسيق أفضل للجميع. الإرهاب موجود في سورية تحت مسمّيات مختلفة من داعش إلى النصرة إلى فصائل أخرى قريبة منهما وتتعاون معهما. منذ إعلان الهدنة للمرة الأولى راقبنا ولا نزال من شارك في هذه الهدنة. من سيتعاون مع الجيش السوري ضدّ الإرهابيين. من سينتقل من الطرف الإرهابي إلى الجهة الأخرى أو سيبقى في المقلب الإرهابي.

يبقى كلّ ذلك، بحسب الديبلوماسي الروسي، رهن الأميركيين. أعلن كيري أنّ استهداف جبهة النصرة مشروع، لأنها ليست جزءاً من نظام الهدنة، وأنّ تغيير اسم «النصرة» لا يغيّر في كونها منظمة إرهابية. هذا الكلام لا يكفي. نحن ننتظر من واشنطن فصل أو فك ارتباط ما تسمّيه «المعارضة المعتدلة» عن الإرهابيين في سورية.

لا تركّز روسيا في محاربتها الإرهاب على فصيل دون آخر. داعش يشبه النصرة. كلاهما يشبهان التنظيمات الأخرى. تشكل هذه المجموعات كلها، كما قال زاسيبكين، خطراً من حيث الإيديولوجيا والأمن وأساليب القتل والأهداف في السيطرة في سورية وأبعد من سورية. جميعها تسعى إلى إقامة دويلات لها. ولذلك لا تنظر موسكو إلى مستوى الخطر الإرهابي من زاوية الأراضي الروسية، إنما من زاوية أوسع لأنّ هذا الخطر موجود في أوروبا وآسيا الوسطى وأميركا. لا أحد يمكنه تصوّّر نفسه في جزيرة آمنة، والآخرين في خطر الإرهاب. الكلّ مستهدَف. لذلك نقول بجدية التعاون في مواجهة هذه الظاهرة واتخاذ الإجراءات الاحترازية.

ورداً على سؤال، يشير زاسيبكين إلى «أنّ روسيا تجري اختبارات لمقاتلات التشكيلات الجوية والبحرية التابعة للمنطقة العسكرية، فهذا يزيد فعالية العمل الروسي ويأتي ذلك في إطار الاختبارات القتالية التي من شأنها أن تسرّع تطويق أية أزمات طارئة، فهذه الاختبارات تدلّ على ذكاء القياديين العسكريين الروس.

الأكراد إلى جانب الجيش السوري في محاربة الإرهاب

تضع موسكو، وفق زاسيبكين، ملاحظات على النشاطات العسكرية الخارجية سواء الأميركية أو التركية فوق الأراضي السورية. وتؤكد ضرورة مراعاة القانون الدولي، لأنّ أيّ تدخل خارجي في سورية دون التنسيق مع حكومتها الشرعية سيؤدّي إلى توترات، ويثير شكوكاً في أهدافه. من يريد مكافحة الإرهاب لا يوجّه غاراته ضدّ الجيش السوري أو ضدّ الأكراد.

لن تقف روسيا ضدّ مطالب الأكراد في إطار الدولة السورية. يؤكد السفير الروسي ضرورة أن يشاركوا في المفاوضات الجارية والحوار الوطني، لديهم حقوق كما الآخرين. من الممكن أن يلعب الأكراد دوراً في محاربة الإرهاب بصفتهم قوة عسكرية كبيرة ومكوناً من مكونات الشعب السوري. نحن سنعمل كي يكون الأكراد في صف واحد مع جميع المناضلين ضدّ الإرهاب بدرجة أولى إلى جانب الجيش النظامي السوري.

لا تستغرب موسكو، بحسب زاسيبكين، الموقف التركي التقليدي الذي تجسّد في الهجوم على مدينة جرابلس. هذا التحرك واضح الأهداف. لذلك نحن دعونا تركيا مراراً ولا نزال، إلى تجنّب ضرب الأكراد السوريين.

مقولة «إسقاط النظام» هدف عدواني

البارز هنا، بحسب السفير الروسي، أنّ الأميركيين يعدّلون مواقفهم. يتراجعون وغيرهم من الأطراف الإقليمية عن أهدافهم الأولية. طرح هؤلاء إسقاط النظام في بداية الأزمة السورية. كانوا مقتنعين بأنّ هذا سيحدث خلال شهرين أو ثلاثة. تبدّل موقفهم اليوم من السعي لإسقاطه إلى الاعتراف به كطرف في الحلّ. لا يخفي زاسيبكين أنّ هناك خلافات لا تزال موجودة مع هذه الدول، لكن المهمّ إيجاد الحلول. لذلك يبقى التركيز على الحوار مع الأطراف المعنية والمؤثرة لأنّ البديل خطير جداً. إذ بات واضحاً للجميع أنّ الإرهاب لا يهدّد سورية فقط أو الرئيس بشار الأسد إنما أوروبا وأميركا وروسيا والدول الخليجية. يجب الاعتراف بالمصالح الحقيقية وليس بالمصالح الوهمية أو الأهداف التوسعية والعدوانية. مقولة إسقاط النظام ليست إلا هدفاً عدوانياً. بغضّ النظر عن أنّ العلاقات الروسية – السعودية جيدة، بمعنى عام. الحوار السياسي مستمرّ، بعيداً عن التقييم الروسي السلبي لعملية التحالف العربي في اليمن وما خلّفته من ضحايا ودمار. لكن موسكو تطرح نفسها للمساعدة والتعاون مع الطرف السعودي والأطراف في اليمن لإيجاد الحلّ.

مع تكشف أبعاد الانقلاب الفاشل في تركيا، برز تحوّل لافت في موقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. لكن السؤال، بحسب زاسيبكين، هل تصل تركيا إلى مرحلة إغلاق الحدود أمام الإرهابيين؟ إذا حصل ذلك فهو أمر جيد ومهمّ. لكن السفير الروسي يشير إلى أن لا تصوّر واضحاً يمكن البناء عليه، إذا كانت تركيا وصلت حدّ التعاون في هذا الشأن وأنّ لديها قدرات ونيات بذلك.

الانقلاب في العلاقات غير وارد

رغم الإشكالات في العلاقة التركية الأميركية، لا يتوقع الديبلوماسي المخضرم الذي يستمر في تمثيل بلاده في لبنان، أن يكون هناك تغيير جذري ومفاجئ في السياسة التركية كالابتعاد عن المحور الأميركي أو الخروج من الناتو. واقعية زاسيبكين تقول: إنّ لكلّ خطوة حدوداً معينة إذا وصلنا لإعادة توازن فهذا جيد. أما الحديث عن انقلاب في العلاقات فغير وارد. لا تزال تركيا في الناتو سياسياً وأمنياً، وعلى تواصل مستمرّ مع واشنطن.

لا تتوقع موسكو من أردوغان خطوات مفاجئة خلال أيام. لكن الأكيد أنّ تحوّلاً جزئياً – يقول زاسيبكين – طرأ على الموقف التركي من الدولة السورية. لم تعد أنقرة تطالب بإسقاط الرئيس الأسد . أصبح الحلّ عندها بالتعاون مع الدولة السورية في الفترة الراهنة لمحاربة الإرهاب. هذا تطوّر إيجابي. يعطي فرصة العمل حالياً، من دون التوقف عند الرؤية التركية للمرحلة المستقبلية، المتباينة مع روسيا التي تعتبر أنّ الشعب السوري هو المعني الوحيد بها، إذ لا يجوز اتخاذ أية قرارات من الخارج حول مصير النظام السوري أو سواه من دون مشاركته فيها.

تغيّر النهج التركي بصورة ملموسة. أدركت تركيا أهمية تطبيع العلاقات مع روسيا. الموضوع مهمّ بالنسبة لموسكو، لكنها تتعاطى بحذر. هذا ما يشير إليه زاسيبكين. تبدي إيجابية في التعاون الاقتصادي لكن وفق المصالح الروسية.

الأطماع الأميركية بدأت بالفشل

يؤكد الموقف التركي أنّ الأطماع الأميركية بدأت بالفشل. لم تعد الإدارة الأميركية تستطيع أن تقود العالم كله رغم قدراتها العسكرية والاقتصادية العظمى. يؤكد حلفاؤها، أن لا حلّ من دون روسيا لأزمات المنطقة. كلّ ذلك لا يبرّر، بحسب الرؤية الاستراتيجية عند زاسيبكين، الحديث عن خروج تحالفات جديدة إلى الواجهة روسي تركي – إيراني – سوري . فضلاً عن أنّ الكلام يؤثر سلباً على روسيا. ما يهمّها هو أن تلعب دوراً كبيراً في إيجاد حلول لنزاعات المنطقة بما فيها سورية، والتفاهم لإنهاء الأزمة اليمنية. لذلك ترغب بالتواصل مع السعودية ومصر وغيرهما في سبيل تسوية شاملة.

نقاط قوة في الوقت الضائع أميركياً

وبانتظار أن تنتهي الفترة الفاصلة عن الانتخابات الرئاسية الأميركية، ستبقى روسيا، وفق زاسيبكين، على الدينامية نفسها في العمل للوصول إلى حلول سياسية للقضايا العالقة. تريد أن تكسب نقاط قوة خلال الوقت الضائع. لديها أهداف واضحة أبرزها مكافحة الإرهاب، تقديم المزيد من المساعدات الإنسانية، العودة إلى التفاوض وفقاً لخارطة الطريق، لكن السفير الروسي يسأل: ما هي اعتبارات الرئيس الأميركي باراك أوباما؟ هل إدارته قادرة على إحراز التقدّم خلال ما تبقى من ولايته؟ ويجيب: هذا شأنه. أما موسكو فهي على جهوزية للتعامل مع أيّ رئيس جديد. لدينا دور مهمّ سنقوم به قبل الانتخابات وبعدها.

روسيا في حالة استنفار

وإذا كان الملف اللبناني ربطه اللبنانيون أنفسهم بالتطورات في المنطقة وتحديداً السورية، فإنّ السفير الروسي يؤكد أنّ الأطراف الخارجية من الممكن أن تؤثر إيجاباً على الأوضاع الداخلية اللبنانية ما إذا كانت هناك قواسم مشتركة عند اللبنانيين. فتارة تخرج أجواء تفاؤلية ومن ثم تتبدّد.

ويلفت زاسيبكين إلى أنّ الملف الرئاسي دخل مرحلة حساسة جداً مع اقتراب الانتخابات النيابية، لذلك باتت الرئاسة مطلوبة أكثر من أيّ وقت مضى. وعليه، فإنّ روسيا في حالة استنفار. تبدي استعداداً للاتصال بالأطراف المعنية كافة محلياً واقليمياً. طرحت هذا الملف في فترة سابقة من دون أن يتمّ التوصل إلى اتفاق. ستواصل هذه الاتصالات وفق التطــورات، إذ يجب الانطلاق، بحسب زاسيبكيـن، من مواقــف القيـادات السياسيـة والتحـدّث إلى جميـع المؤثريـن على الساحـة اللبنانيـة.

يؤكد السفير الروسي أنّ فرص الوصول لانتخاب رئيس خلال الأشهر القليلة المقبلة ستزداد وسنحاول الاستفادة منها بشكل كامل، رافضاً التحدث عن أسماء أو الدخول في التفاصيل، داعياً فقط إلى الاستفادة من المستجدات. فالرئيس مطلوب لكلّ الاعتبارات مسيحياً ووطنياً.

الحفاظ على دول المنطقة

الأكيد أنّ الخطر الأهمّ أمام البشرية يتمثل بمحاولات تفكيك الدول وتغيير معالمها الكانتونات وإحداث الفوضى التي بدأت منذ عشرات السنين. الشرق في أوج الصراع. روسيا لديها هدف الحفاظ على دول المنطقة. بل وتتمسك به.

لا يعتقد السفير الروسي أنّ بلاده فقدت شيئاً مهماً في منطقة البحر المتوسط. فهي وقفت ضدّ المؤامرة على سورية وستبقى إلى جانبها لمنع تقسيمها.

تبذل روسيا الجهود السياسية السلمية. لديها دائماً أفق تعمل على أساسه لإغلاق الأبواب في وجه الفوضى. بدأت بصنع مفتاح الحلّ. صحيح أنّ دورها تضاعف. لجهة فعالية دورها في المجال العسكري في سورية والتواصل مع جميع الأطراف المؤثرة، واعتراف الجميع بدورها. لكن بحسب زاسيبكين، يتطلب الحلّ مشاركة الجميع. جميع الدول الفاعلة لها دور. من هذا المنطلق تسعى موسكو لتوسيع دائرة التفاهـم مـع الجميـع باستثنـاء الإرهابييـن.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى