أردوغان يتوسّل بوتين… فيما روسيا تغلي بسبب التوغّل التركي في سورية

ترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق

كتب آلِكسندر ميركوريس في «Information Clearing House»: روسيا غاضبة للغاية بسبب التحرّك التركي لـ«المتمرّدين» في «المنطقة الآمنة» داخل سورية لمساندة الجهاديين هناك، معرّضةً ما يُسمّى «تطبيع العلاقات» بين روسيا وتركيا للخطر. وبعد الانتهاء من الحسابات الفورية لاستيلاء الأتراك على مدينة جرابلس في سورية، سارع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى مهاتفة «صديقه بوتين».

جاءت حسابات الكرملين ردّاً على هذه المحادثة انتقائية للغاية بحسب معايير كلّ من الطرفين: ناقش القائدان تطوّرات التجارة الروسية ـ التركية والتعاون السياسي والاقتصادي بهدف الإبقاء على الاتفاقيات التي توصّل الطرفان إليها في سان بطرسبرغ في التاسع من آب الماضي. وقد تبادل بوتين وأردوغان الآراء حول التطوّرات في سورية، كما أشارا إلى أهمية الجهود المشتركة في مكافحة الإرهاب. وقد اتفق الجانبان على متابعة الحوار بينهما حول قضايا جدول الأعمال الثنائي الدولي.

وفي الواقع، فإن الموضوع الحقيقي للمناقشة، تركّز حول إحكام الأتراك قبضتهم على جرابلس في الشمال السوري. وفيما يبدو أن الأتراك لم يبلّغوا الروس بهذه الحركة المتقدّمة، فمن الواضح أن الروس ليسوا سعداء بهذا الوضع. وعلى رغم أن الأتراك لا يبدو أنهم قد بذلوا مجهوداً لترتيب المحادثات مع القيادة العسكرية الروسية، التي كان يُفترض بها مناقشة هذه الخطوة ـ حتى مع إعلان زيارة تركيا من قبل الجنرال غيراسيموف، رئيس هيئة الأركان العامة الروسية ـ فإن أياً من هذه المحادثات لن يحصل، مع استمرار تغاضي الروس ونكرانهم لموافقتهم على زيارة رئيس أركان قواتهم إلى تركيا، بينما تؤكد روسيا أن هذه الزيارة قد أُجّلت.

تعكس وسائل الإعلام الروسية في الوقت الحالي مدى الغضب الروسي. ومن أهمّ المقالات التي نُشرت في صحيفة «كومرسانت» الروسية، والتي تستند بوضوح إلى إحاطات رسمية، تتّهم تركيا بـ«الذهاب أبعد بكثير مما وعدت به في سورية». ويُجسّد هذا المقال التفكير الرسمي في موسكو كما يؤكد أن تركيا لم تعمد إلى التنسيق مع موسكو أو مع دمشق إبان عملية جرابلس أو قبلها، وأن هذه العملية فاقت التوقعات الروسية. ومن الواضح أن الروس منزعجون من نتائجها التي حصل فيها تنسيق بين تركيا والولايات المتحدة الأميركية، خصوصاً لناحية الدعم الجوّي.

وبالنسبة إلى موسكو، فإن عملية أنقرة لم تشكل مفاجأة سارة، ما يدلّ على أن توقعات التقارب بين مواقع كلّ من البلدين داخل سورية بعد لقاء بوتين ـ أردوغان، لم تكن ناضجة وجاهزة بما فيه الكفاية. وفي معرض اتخاذ القرار حول العملية في جرابلس، فإن القائد التركي كان قد أرسل إشارة مفادها أن العلاقات مع الولايات المتحدة سوف تبقى ذات أولوية بالنسبة إليه، وأنه يفضل العمل ضمن إطار التحالف ضدّ الإرهاب الذي تقوده واشنطن، لا موسكو.

وكنتُ قد حذّرتُ مراراً وتكراراً من خطورة رفع سقف التوقعات لناحية التقارب الأخير الذي حصل بين موسكو وأنقرة، وإمكانية بلوغه أيّ نوع من التجميع والتوافق. فضلاً عن أني ذكرتُ انزعاج تركيا من الولايات المتحدة الأميركية بسبب الانقلاب الأخير، فتركيا ستبقى حليفةً للولايات المتحدة، الملتزمة تأييدها تغيير النظام في سورية، ولن تذهب بعيداً إلى حدّ رمي الولايات المتحدة خارج قاعدة إنجريليك الاستراتيجية أو السماح لروسيا باستعمال هذه القاعدة.

ويتابع كاتب المقال المشؤوم في صحيفة «كومرسانت» الروسية يقول: «أما بالنسبة إلى معلومات كومرسانت، في حال تفاقم الوضع، أن الجيش الروسي كما الدبلوماسيين باتوا مستعدّين لتوظيف القنوات الثنائية للتواصل مع نظرائهم الأتراك، فضلاً عن تعبيرهم عن هواجسهم للولايات المتحدة اذا اقتضى الأمر. وبالنسبة إلى فلاديمير سوتكينوف، وهو مدير مركز روسيا في الشرق والغرب، والكائن في موسكو، أنه يمكن للأحداث الحاصلة في أنقرة أن تؤثر تأثيراً خطيراً على سير عمليات التطبيع في التعاون الثنائي والتي توافق عليها الرئيسين بوتين وأردوغان في سان بطرسبرغ».

وكلّ ما سبق ذكره يوحي بأن هذه اللغة العامة الخفيفة تخفي وراءها عدد من الشكاوى من موسكو باتجاه أنقرة. فاتصال أردوغان ببوتين، بدا على أنه محاولة لامتصاص الغضب الروسي، بهدف التأكيد على إدراك روسيا الواضح للنوايا التركية في سورية، وللإبقاء على مسار التطبيع بين روسيا وتركيا على الطريق الصحيح. وباختصار، فإن ملخص حوار الكرملين، يقترح أن بوتين كان قد أوضح ـ في المقابل ـ المشاعر والهواجس الروسية تماماً، وأن اللغة الدبلوماسية، كانت في ما مضى تبادل صريح وكامل لوجهات النظر.

إذاً، لمَ كلّ هذا الغضب الروسي من عملية جرابلس؟

أودّ هنا أن أعترف بامتناني للدَّيْن الثقيل الذي ألقاه على كاهلي المحلّل الجيوسياسي مارك سليبودا، والذي عمل على تصحيح أخطاء كثيرة كنتُ قد ارتكبتها مسبقاً في ما يتعلق بعملية جرابلس، تصحيحٌ، ساهم في فهمي التام كلَّ ما حدث. وكنتُ قد ذكرتُ في مقالاتي السابقة حول عملية جرابلس، بأنها جاءت استهدافاً للأكراد بشكل رئيس، الذين توسعت قواتهم الميليشيوية «حزب العمال الكردستاني»، خلال السنة الماضية في الشمال الشرقي السوري وجعلته خاضعاً لسيطرتهم. وكنتُ أنا قد قلّلتُ من احتمال الاستيلاء التركي على جرابلس، باعتبار أن هذا الاستيلاء سوف يؤثر على سير المعركة في حلب من خلال توفير المساعدات للمقاتلين الجهاديين الذين يحاولون كسر الحصار هناك.

وقلتُ في مقالي الأخير ما مفاده: «… ليس واضحاً ما إذا كان المقاتلون يريدون فعلاً استحداث منطقة آمنة لهم في تلك المساحة. إذ إنهم يتمتعون بوجود ممرّ لإرسال الرجال والإمدادات إلى حلب عبر محافظة إدلب، التي يُخضعونها لسيطرتهم. إذاً، لمَ تكبّد عناء مشاكل أخرى جديدة من خلال الإصرار على وجود تلك المنطقة الآمنة التي تبعد كثيراً عن الشمال الشرقي السوري حيث يسيطر المتمرّدون على مناطق هي أقرب جغرافياً إلى حلب؟».

قام مارك سليبودا بشرح أهمية هذا الممرّ الرئيس لتزويد «المتمرّدين» بما يريدونه والذي كان دائماً عبر المنطقة السورية في الشمال الشرقي حول جرابلس. وقد قال تحديداً: «ليست إدلب طريقاً مقبولاً للإمداد من تركيا للقوات المتموقعة في محافظة حلب، لأن الحدود السورية ـ التركية في إدلب هي عبارة عن تضاريس جبلية صغيرة، وعرة ومتعرّجة، بينمت تشكل جرابلس الممرّ الحيوي للمقاتلين. وهذا ما أدّى بالأتراك إلى التمسك بأولوية إعلان هذه المنطقة محظورة الطيران منذ البداية لقد استنتجنا هذا في ما بعد».

وبعبارة أخرى، فإن الاستيلاء التركي على جرابلس قبل تمكّن حزب العمال الكردستاني منه، لم يكن يعمل في إطار منع إحكام الأكراد السيطرة على كلا المنطقتين في الداخل السوري ـ علماً أن هذا العامل قد يكون عاملاً ثانياً غير رئيس ـ غير أنه كان يرتكز بشكل مبدأيّ على حماية طريق الإمداد الرئيس الذي تستخدمه تركيا لتمويل الجهاديين الذي يهاجمون حلب.

وبعبارة أخرى، فقد أصبح واضحاً الآن أن الطموحات التركية تذهب بعيداً من جرابلس. فقد تحدّث مختلف المسؤولين الأتراك في الأوساط الإعلامية التركية عن احتمال نشوب تمرّد كبير داخل «المنطقة الآمنة» في تلك المساحة من سورية. وعلاوةً على ذلك، فإن مارك سليبودا يقول: لقد استطاعوا الآن تأمين الدعم من الولايات المتحدة، كما ظهر من الدور الفعال الذي لعبته القوات الجوية الأميركية في دعم التحرّك التركي نحو جرابلس.

كذلك، أوضح لي مارك سليبودا، أنه من خلال خلق «المنطقة الآمنة» داخل سورية، فقد أعلنت تركيا عن هدفها الواضح على مدى سنة قادمة بدءاً من تاريخه. فقد مُنع الآتراك ـ إلى الآن ـ من إدراك ذلك بسبب إحجام الولايات المتحدة عن تقديم الدعم اللازم لهم، وبسبب قلق واشنطن وأنقرة من إمكانية حدوث ردود فعل عسكرية روسية. وبهذا التقدم نحو جرابلس الذي يلقى الدعم الأميركي، ومن خلال قبول روسيا حصول تركيا عليها خلسةً، فقد أحرز الأتراك نجاحاً لافتاً.

ما هي تبعات كلّ هذه الأحداث على الحرب في سورية واستمرار التقارب الروسي ـ التركي؟

بالعودة إلى الحرب في سورية، فإن وجهة نظري تقول إن كل ما ذُكر لن يساهم في حسم نتيجة المعركة في حلب، حيث تشير التقارير إلى أن الجيش السوري مستمرٌ في السيطرة على الأراضي بلا انقطاع، فيما يزداد ـ في الواقع ـ تدفّق الإمدادات إلى المقاتلين الجهاديين عبر الحدود التركية. ووجهة نظري أنه على المدى البعيد، سوف تنجح الحكومة السورية في تحقيق كامل السيطرة على محافظة حلب وتحديداً مناطق إدلب، ثمّ سوف تكسب الحرب. ومع ذلك، تشير هذه المرحلة إلى أن كسب الحرب لا يزال هدفاً بعيد المنال والتحقق، وأن الأتراك ومن يحميهم من أصدقائهم الأميركيين، لا يزالون مستعدّين للاستمرار في التصعيد بهدف منع الجيش السوري من تحقيق مكاسبه.

وبعيداً من ذلك، فإني أعتقد أن الصحافي البريطاني باتريك كوكبيرن قد يكون محقاً، في أنه وبينما تجري محاولة خلق «منطقة آمنة» في سورية، تعمد تركيا إلى وضع يدها عليها، في خطوة تشير إلى «توريط تركيا في المستنقع القاتل للحرب السورية ـ العراقية».

وبالفعل، فإن هناك دلائل تشير إلى أن هذه الحركة التركية تثير ردود فعل محلية من حزب العمال الكردستاني والأكراد. وعلى رغم التقارير المبكرة التي قدّمها هذا الحزب من خلال سحب جميع قواته بعيداً إلى القسم الشرقي من نهر الفرات، فإن تقارير مدهشة تتحدث الآن عن المقاومة الكردية العسكرية المتحالفة مع حزب العمال الكردستاني ـ للتقدّم التركي، وهناك أيضاً تقارير عن تعبئة ضدّ الحركة التركية في المناطق الكردية من سورية.

في مقالي الأخير، أوضحتُ ما يلي حول القدرة المحتملة لحزب العمال الكردستاني لتدمير أيّ مخطّط لإقامة «المتمردين» «المنطقة الآمنة» في ذلك الجانب من سورية.

«شمال شرق سورية هي منطقة متنازع بقوة حيث يهيمن الأكراد هناك لا الثوار. وهي لا تبدو كمنطقة آمنة للمتمردين أو حتى منطقة موثوقة وذات مصداقية لاتخاذها مركزاً لشنّ الهجمات منها على حلب. وعلى العكس من ذلك، فإن محاولة خلق المتمردين هذه المنطقة في ذلك المكان تحديداً، يمكن أن يستثير حميّة الأكراد، ويعيد إلى الأذهان ـ كما إلى الواقع ـ التحالف بين الحكومة السورية وحزب العمال الكردستاني. وقد يؤدي هذا من دون أدنى شك إلى إفشال المخطط الكامل لإقامة المنطقة الآمنة، باعتبارها غير آمنة وعديمة القيمة. وبطبيعة الحال، فقد يحاول الجيش التركي التوغل أكثر في الأعماق السورية، ما من شأنه أن يورّط الجيش التركي بحرب عصابات طويلة الأمد مع الأكراد داخل الأراضي السورية. وأشك ـ في الحقيقة ـ في أن أياً من أردوغان أو الولايات المتحدة يريدان فعلاً بلوغ هذه المرحلة.

وفي مقاته الذي يناقش فيه التوغل التركي، يؤكد باتريك كوكبيرن على الفكرة عينها: «قد تكون تركيا قادرةً على منع الأكراد بشكل دائم يمتدّ إلى مناطق حكمهم غرب الفرات، لكنها قد تكون مختلفة وأكثر خطورة لمهاجمة واقع قيام الدولة السورية ـ الكردية، والتي ستحدّد وجودها بين نهرَي الفرات ودجلة، وذلك منذ انسحاب الجيش السوري من مناطق كثيرة عام 2012».

إنشاء «المتمرّدين» «منطقة آمنة» داخل سورية وفي عقر دار «المعارضة الكردية»، هو ما يريده أردوغان والأتراك المدعومون دوماً من الولايات المتحدة الأميركية.

وفي الأيام الأخيرة كان هناك حديث متجدّد حول تورّط روسيا أكثر في الحرب في سورية. وبرأيي، فإن البلد الذي يسارع إلى التورّط حدّ الخطر في الحرب السورية هي روسيا لا تركيا، والتي عليها أيضاً التعاطي مع الحملة الإسلامية الإرهابية وكذا التمرّد الكردي على أراضيها، بغضّ النظر عن العواقب الكبيرة والضخمة للحرب على سورية، التي لا يمكنها تكبّد عناء دخول الأكراد ـ المدعومين من روسيا ـ في حرب جديدة مع الجيش التركي، وهذه هي الخطوة الأكثر خطورةً بالنسبة إلى تركيا في الوقت الحالي.

يبقى هنا اللغز المتميّز للسياسة الأميركية، والتي شجعت استيلاء حزب العمال الكردستاني على مدينة منبج الواقعة غرب الفرات ـ وأخذها من «داعش»، ودعمت القوات الكردية بالأسلحة الجوية الثقيلة حينذاك. وهي تطالب حالياً بانسحاب الأكراد من منبج ومن باقي المناطق الواقعة غرب الفرات، مقدّمةً الدعم الجوي للقوات التركية في استهدافها الأكراد هناك. لذا، فإنه من المستحيل أن نجد أيّ منطق في هذه التحرّكات، وذلك على حدّ ما ذكرته في مقالي السابق: «من المستحيل رؤية أيّ تجانس أو تماسك استراتيجي هنا. بل يبدو كما لو أن وكالة الاستخبارات الأميركية والمسؤولين العسكريين على الأرض في سورية مستمرون بطريقتهم الخاصة، يشجعون الأكراد على التوسع قدر الإمكان، غافلين عن عواقب أخرى وخيمة للغاية. إن القيادة السياسية في واشنطن، وعندما استيقظت واستوعبت ما يجري من حولها، أيقنت أنها مضطرّة إلى اتخاذ خطوات غير متناسبة لإعادة الوضع إلى السيطرة كما كان».

وبغضّ النظر عن ذلك، علينا التطلّع إلى الحركة التركية نحو سورية على أنها قد تدفن مرة واحدة والى الأبد، أيّ أفكار أو احتمالات حول إعادة إجراء تركيا اعتباراً للتغيرات الجيوسياسية الحاصلة في الغرب تجاه القوى الأوراسية. فتركيا ليست فقط حليفة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، بل هي الآن تُجري عمليات عسكرية غير شرعية ضدّ «المعارضة» في سورية بدعم من الجيش الأميركي. وهذا العمل لا يصبّ في مصلحة بلد يسعى إلى ويتحضّر لتبديل التحالفات، وينتقل من الغرب إلى بكين وموسكو.

هناك محادثات روسية ـ تركية تُجرى الآن، بعد أن كانت قد توقفت لشهور عدّة. وأشار التقرير النهائي للكرملين إلى أن المحادثات بين بوتين وأردوغان تشير إلى أنهما لا يزالان يسعيان إلى تحسين علاقاتهما التجارية والاقتصادية. ومع ذلك، فإن مقال «كومرسانت» يشير إلى أن هذا التطوّر المحدود يعرّض العلاقات بين البلدين في ما يتعلق بالمسألة السورية إلى الخطر.

وبكلمات أخرى، فإن تركيا تبقى، كما كانت دوماً، حليفاً رئيساً ليس فقط لروسيا والقوى الأوراسية، إنما أيضاً للولايات المتحدة الأميركية والغرب، وما تقوم به في سورية لهو دليل حقيقيّ على هذا التمظهر.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى