الإذاعة اللبنانية… حاضرة رغم الحصار

جهاد أيوب

حينما انطلقت إذاعة لبنان بتسميات مختلفة وبتواريخ منوّعة، كانت رائدة وتخرّج منها أساتذة الفنّ والإعلام اللبنانيَّيْن. لم تكن مجرّد ثرثرات كما هو حاصل اليوم في الإذاعات العربية والمحلية، بل قيمة إضافية إلى الثقافة الإبداعية. حافظت على اللغة العربية المسؤولة، وساهمت في صناعة الأغنية والموسيقى والشعر والتمثيل المحترم. لم تكن شوارعية بل نزلت إلى الرصيف، وحملت واقع الناس هناك ليشاركوها في نهضة أمة وبلد ووطن وأجيال ومحيط. لها علينا الكثير، ولم نقدّم لها عبر السنين غير الجحود والنكران.

قبل عصر التلفزيون العربي، وكان التلفزيون اللبناني الأول في البثّ عربياً حيث انطلق في أواخر عام 1959 ولمدة ثلاث ساعات يومياً، ثمّ من الساعة السادسة مساءَ حتى الثانية عشر ليلاً، ومن بعده بسنة بدأ بثّ التلفزيون العراقي. في تلك المرحلة، كانت الإذاعة اللبنانية المنبر الأوسع للصوت العربي، وهدفاً لتمرير المشاريع النهضوية السياسية والفكرية، وغاية ينطلق منها المبدع المحلي والعربي، وبالأخص من سورية، ونذكر الملحّن محمد محسن، والأشقاء الثلاثة ومنهم عبود عبد العال يعزفون على آلة الكمان، من أصل فلسطيني قدِموا من الشام. وقد اشتهر عبود بعزفه خلف صباح بعدما غنّت «جيب المجوز يا عبود»، واعتقد الناس أنها تقصده وفي الحقيقة لا علاقة له بهذه الأغنية الشعبية الشهيرة، والتي أصبحت تراثاً لبنانياً.

الفنان الكبير فهد بلان اعترف خلال لقاء جمعه مع الكاتب جورج خاطر، بفضل إذاعة لبنان عليه. وأنّ بداياته وشهرته انطلقت منها. ومثله آخرون كثر لا مجال لذكرهم الآن.

في عهد الاستعمار الفرنسي، سُمّيت الإذاعة اللبنانية «راديو الشرق RADIO ORIENT»، ومع الجلاء سمّيت «الإذاعة اللبنانية من بيروت»، وبعد دخول قوات الردع العربية للجم التحارب اللبنانيّ عام 1975، أصبح اسمها «إذاعة لبنان لكلّ لبنان».

عام 1960 نُقلت «الإذاعة اللبنانية من بيروت» من مركز السراي الحكومية الحالية إلى منطقة الصنائع في شارع الرئيس إميل إدّه، أي وزارة السياحة، وتم تغيير اسمها.

هذه الإذاعة المخضرمة الخضراء الرائدة التي انطلقت حنجرة وديع الصافي وصباح من وراء مذياعها الذهبي، وجارة القمر فيروز غرّدت مع كورسها، وصدحت منها نبرات شريف الأخوي وفاضل سعيد عقل، ورياض شرارة، وترجمت أنغام فيلمون وهبي، وتوفيق الباشا وحليم الرومي، وزكي ناصيف، وتتلمذ فيها الياس الرحباني، وسطّرت أحلام محمد شامل وعبد الجليل وهبي. وتخرّج منها أهم الكوادر الإذاعية السمعية إلى الشاشات المحلية والفضائية هي اليوم تعيش المظلومية.

مظلومية من كلّ الحكومات التي عبرت وتعبر وستعبر النظام اللبناني، وتخلوا عنها وعن الحلم فيها تاركينها للقحط المادي، ولعدم تمكن نجاح طموحات المسؤولين فيها وعنها رغم جهودهم الكبيرة والواضحة. إمكانيات مالية أفقر من الفقر تحاصر تطلّعات كبيرة تشيخ مع الزمن. والمصيبة صوتها لا يغطي مساحة كلّ أثير الوطن رغم اتّزانها في تقديم موادها وطنياً.

وجب أن يعاد النظر في هذا الصرح الثقافي الفني المهم، والاستماع إلى كوادر يعملون فيه رغم ما يصيبه على يد الدولة.

مدير الإذاعة الممثل والكاتب القدير محمد إبراهيم يسعى إلى الحفاظ على أن تكون الإذاعة قبس المنافسة، ولا يسمح لبرامج الثرثرة والفراغ الفكري أن تنطلق منها. والمدير العام د.حسان فلحة مدرك ذلك مع أن ملاحظاتنا كثيرة، ولكن وضعها الاقتصادي يجبرنا على الصمت.

أما مديرة البرامج الزميلة ريتا نجيم الرومي فلها حكايات مع الذوق والأدب والبحث عن التميّز والاختلاف، ونخجل من تواضعها رغم خبرتها. وكثر كثر لا يسعنا الحديث عنهم رغم تميّزهم في زمن القحط الإذاعي المتعمد.

تعيش الإذاعة مظلومية من بعض الزملاء الذين يسعون إلى العمل فيها، وإلى تقديم أفكارهم مهما كان مستواها، وإذا كان الردّ سلبياً يبدأون بالشتم والهدم والتطاول مع أن هذا الصرح يشبه دولته، وتعميم الخلل لمصالح شخصية خطأ، والنقد من أجل الإصلاح والأفضل وجب أن يكون بالمواجهة وبتصحيح الخطأ إذا حدث، لا بالانتقادات الناقمة والباحثة عن مكاسب آنية.

من حق كلّ إعلامي لبناني أن تكون له مساحة بصمة في صرح إذاعة دولته وتلفزيونها، وفي المقابل لا بدّ من مناقشة التجربة، وليس كل من رفع صوته فكرته أصبح علامة عالمية.

على مديرية الإذاعة والتلفزيون الرسمي الانفتاح أكثر، والمواجهة رغم كل هذه الظروف الصعبة وشرح أيّ خطة جديدة علناً وبشفافية لحساسية الدور، وليس خطأ إنشاء لجنة دورها التواصل والتقييم والتجديد. وعلى الإعلاميين إذا كانوا من الإعلاميين التروّي، وعلى الدولة التنبّه إلى صوتها الحقيقي، والإذاعة صوتها وتاريخها… كي لا يختفيان معاً.

إذاعة لبنان ملح المواطن والمواطَنة والدولة، وذاكرة ذهبية خصبة فيها صنعت ثقافتنا، ورمّمت لغتنا، ونظّفت مسامعنا، وعلّقت راياتنا الفنية باعتزاز، ولاحت أسماء نفخر بها في سماء صافية، هذه الإذاعة تحتاج إلى وقفة ضمير فيها محبة من المسؤولين، ومسؤولية من الإعلاميين، ووفاء من الفنانين والمثقفين.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى