تشومسكي: أنا صهيوني… فهل يستحق كلّ هذا؟

د. عادل سمارة

يعتبر نعوم تشومسكي من أكثر المفكرين المعاصرين حظوة على الصعيدين الشعبي والرسمي العالميين على حدّ سواء، ففي الوقت الذي يُشار إليه بالبنان، وخاصة من العرب لبراليين ويساريين على أنه مفكر يساري، بل يراه البعض اشتراكياً، تنظر إليه المؤسسات الحاكمة على انه نقدي ليبرالي وحسب، لذا لم تتعرّض له المؤسسة الحاكمة كما هو حال نورمان فنكلشتاين، ولا الأكاديميا كما هو حال جوزيف مسعد.

على أن ما يحدّد فكر الرجل يجب أن تكون أطروحاته الفكرية وليس فقط مساوماته أو تصالحاته السياسية، فتشومسكي أحد أعلام الثقافوية واللغويات وتنظيراته في هذا النطاق هي التي تشكل دوره ووزنه، وليست مواقفه السياسية تجاه النظام الأميركي، الذي لا يحتاج المرء ليكون اشتراكياً كي ينقده، فأيّ إنسان حقيقي هو نقيض وضحية محتملة للنظام الأميركي.

الجانب الأسود في فكر تشومسكي هو موقفه لصالح الكيان الصهيوني و «ثوار» الناتو في سورية. لذا، ما يهمّني هنا هو أكثر من سؤال منها:

كيف يمكن لمفكر إنساني أن يكون مع كلّ الشعوب المضطهدة باستثناء العرب والفلسطينين؟

وهل هو إذن إنساني؟ بمعى هل تتجزأ الإنسانية؟ هذا يذكرني تماماً بالتروتسكيين معظمهم على الأقلّ فهم مع الثورة والإشتراكية بحماسة هائلة، وحينما يصل الأمر للوطن العربي وخاصة القضية الفلسطينية أيّ تحديداً الموقف من الكيان الصهيوني يتوقف اندفاعهم هذا!

أما أن يقف مفكر مثل تشومسكي مع الإرهابين الأفظع في التاريخ الموجهين ضد هذه الأمة العربية اي:

ـ الإرهاب الصهيوني

ـ وإرهاب الدين السياسي وهابي داعشي قاعدة نصرة إلخ…

فهذا يطرح تساؤلاً مخيفاً هو: كيف يُطريه عرب وفلسطينيون بعد كلّ هذا؟

أكتب هذا بعد أن تابعت الحلقات الثلاث التي عُرضت على إحدى الفضائيات هذا الشهر أيلول لعام 2016. وكنت منذ الترويج المسبق لها قد تساءلت:

ترى، ما الذي سيقوله الرجل؟ هل سيغيّر موقفه منا؟

جاءت الحلقات الثلاث باهتة من جهة وبعيدة تماماً عن العرب والفلسطينيين مما دفعني إلى التساؤل: ما لزومها؟ وما معنى كلفة شرائها وترجمتها، وهل أفادت ذهنية المستمع العربي؟

في الحلقة الأولى مساء السبت 3 أيلول وفي الحديث في الحلقتين التاليتين مع نفس الصحافي اندريه فلنشيك تحدث تشومسكي عن اميركا وحروبها، وعن خطر ما هو آتٍ على العالم. وتحدث عن المستوطنات الرأسمالية البيضاء الولايات المتحدة، كندا، استراليا، نيوزيلندا جنوب أفريقيا ولم يذكر الكيان الصهيوني.

فمن ناحية علمية أخلاقية بل حتى أكاديمية، كان يجب أن يذكر الكيان الصهيوني. ولكن هنا سقط الرجل الفيلسوف من العلم والفلسفة إلى الغيبيات وحتى ميوله الأنارخية -»الفوضوية»، لصالح الإيديولوجيا العنصرية، بمعنى أنه تماثل مع معتقده الصهيوني كما كتب سابقاً بأنه صهيوني أصيل وليس مع الصهيونية الحالية. طبعاً ايّ صهيوني يعتبر فلسطين أرض الميعاد لليهود معتمداً على أساطير التوراة التي كتبت على امتداد سبعماية سنة! هو مع صهيونية احتلال 1948 وضدّ صهيونية احتلال بقية فلسطين 1967. فما الفارق بينه وبين موقف الإدارة الأميركية نفسها!

كان لافتاً تجنّبه الحديث عن فلسطين وكذلك عن سورية. فعند ذكر سورية لم يعلّق كما يجب! لم يذكر هل هو مع داعش أم مع الدولة السورية. لكنه في السنوات السابقة وقف بوضوح مع ما تسمّى «الثورة» السورية.

لكن يبدو أنّ انكشاف هذه «الثورة» إلى حدّ الفضيحة دفعه للصمت، بدل الاعتذار. وكيف يعتذر المفكر الكبير لعرب يحلمون بأن يقبل الدعوة لزيارتهم حتى لو بإهانة؟ إلا أنّ المعيار ليس دونية الطابور الثقافي السادس عرباً وفلسطينيين، بل المعيار هو ما سيكتبه التاريخ عن تواطؤ العقل مع عسف الصهيونية والامبريالية والوهابية.

حين سُئل تشومسكي من قبل مقابليه ستيفن س شالوم و جستين بدور جستين بدور، وأنا اعرفه جيداً هو متقاطع مع تشومسكي في التوجه الأنارخي الفوضوي. لكن موقفه من الصهيونية نقدي فعلاً، وإنْ كان كأنارخي ضدّ القومية بشدة، فهو حين زار فلسطين المحتلة قبل قرابة عشر سنوات طُرد وحُكم بمنع زيارة فلسطين لخمسين سنة!

كان السؤال: كيف يرى إمكانية حلّ دولة واحدة في صيغة دولة ديمقراطية علمانية أجاب كما يلي: «… لم تتبنّ اية مجموعة فلسطينية ولا بالطبع إسرائيلية ذات وزن مقترحاً ينادي

بدولة ديمقراطية علمانية ذات أهمية. بوسع المرء ان يدير حواراً مجرداً، فيما اذا كانت الفكرة «محبّبة، ولكنها غير واقعية بالكامل. لا يوجد دعم دولي ذي معنى لها. ولا داخل إسرائيل، والمعارضة لها تكاد تكون عالمية، إنها تُفهم على انها ستكون دولة فلسطينية بأقلية يهودية، ولا توفر ضماناً لا للديمقراطية ولا للعلمانية، حتى لو تمّ قبول وضعية او حالة الأقلية، وهذا ليس الحال. وبرأيي، فإنّ أولئك الذين ينادون بدولة ديمقراطية علمانية يوفرون سلاحا ًلأكثر العناصر تطرفاً في إسرائيل والولايات المتحدة».

ولكن، هل تقاس حقوق الشعوب بالدعم الدولي والأسرة السياسية الدولية خاضعة ومتذيلة للمركز الراسمالي العالمي؟ ألم يكن التصويت على تقسيم فلسطين مؤامرة ورشى وتهديدات للعديد من الدول التي صوّتت لصالح التقسيم؟ هل يُعقل أنّ تشومسكي لا يعرف هذا؟ كيف سيكون شعور تشومسكي لو قيل له، إنّ هناك من يطالبون بوجوب إلحاق الهزيمة بالكيان الصهيوني وعودة فلسطن كجزء من الوطن العربي الاشتراكي؟

وبالمناسبة، يتكاثر اليوم عدد من يطالبون بدولة ديمقراطية في فلسطين! بل هناك من يطالبون بدولة في فلسطين التاريخية بتعايش مع المستوطنين! جماعة «صرخة من الأعماق». فهل هذا التكاثر يعني أنّ دولة كهذه ستحقق حقوق الشعب الفلسطيني؟ أم انّ كافة هذه المشاريع هي ملهاة ممتدّة منذ ثلاثينات القرن الماضي حتى اليوم؟

ويضيف تشومسكي: «… إنّ الدعوة لدولة ديمقراطية علمانية لم يتمّ أخذها بشكل جدي من قبل الرأي العام الإسرائيلي أو العالمي، هو مطلب واضح بتدمير إسرائيل ولا يعد الإسرائيليين بأيّ شيء أبعد من الأمل في درجة من الحرية عندما تنتهي الأمور إلى دولة فلسطينية… إنّ الدعوة إلى دولة ديمقراطية علمانية الأمر الذي لم يؤخذ على محمل الجدّ من قبل الجمهور الإسرائيلي».

وبغضّ النظر عن هشاشة الدولة الواحدة ما قبل تحرير فلسطين، فإنّ رفض تشومسكي لها يقوم على موقف انتماء يهودي صهيوني يرى في تلك الدولة تدميراً لإسرائيل. لا يوجد أوضح من هذا الموقف الصهيوني.

وبشأن حق العودة يقول تشومسكي: «… ليس هناك تأييد دولي لحق العودة يمكن تلمّسه، وفي ظلّ ظروف فعلية وغير متخيّلة فإنّ دعماً من هذا القبيل إذا ما تطوّر، فإنّ إسرائيل سوف تلجأ إلى سلاحها الأخير والنهائي وهو معاندة الرجل الكبير لمنع حصول هذا الأمر، وبرأيي، فإنه من غير المناسب تعليق آمال لا يمكن أن تتحقق أمام أنظار شعب يعاني من البؤس والقمع، والحري أن يُعمل على بذل جهود بنائية لتخفيف معاناتهم والتعاطي مع مشاكلهم ضمن الألم الواقعي».

هنا تتضح المركزانية الأوروبية في الرجل تماماً، بل ويلتقي مع ما قاله جورج شولتس وزير الخارجية الأميركي الأسبق في 1982 عن «تحسين شروط المعيشة للفلسطينيين».

لقد كرّر تشومسكي مواقفه هذه يوم 14 كانون الثاني2010 ،

فقد رفض أيّ حديث في القضية الفلسطينية «…إذا ما بدأ منذ عام 1948 ، وحصر الصراع على ما احتلّ عام 1967، وقال إنّ جرائم إسرائيل لا يمكن مقارنتها بجرائم أميركا».

وكأنّ المسألة ليست في الجريمة بل فقط في حجمها، هذا إذا كانت جرائم أميركا أكبر حقيقة! وأكد على أنّ دولة واحدة امر غير عملي، وأنّ دولة واحدة اشتراكية غير مفيدة. وطبعاً هذا ينقض تغزله، في حلقات الحوار الثلاث معه، في دول الإشتراكية المحققة بعد أن انتهت! كما رفض مقاطعة فرقة رقص إسرائيلي كمثال على ما يجب أن يقاطع .

ورغم أنّ موقفه هو فقط نقد الكيان الصهيوني على احتلال الضفة والقطاع 1967، وتمسّكه ببقاء الكيان دولة لليهود ورفضه ما تسمّى الدولة الواحدة الخ… إلا أنّ دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية بجامعة بير زيت أصرّت على استضافته.

أما سلطات الاحتلال، فمنعت تشومسكي من هذه الزيارة لأنها لم تكتف بكلّ مواقفه لصالح الكيان معترضة على دعوته لانسحاب جيش الاحتلال من الضفة الغربية المحتلة!

لكن الغريب أنّ البعض عوَّض تشومسكي عن زيارته للضفة المحتلة بأن دعاه إلى بيروت كي يتأستذ أيضاً على مثقفين/ات لبنانيين/ات، وهناك أتقن هو الدور الفوقي حيث رفض بوضوح أيّ شكل من الدولة بين الفلسطينيين واليهود! فإنّ تشومسكي بهذا الموقف الحدِّي للفصل بيننا وبين الغُزاة، إنما ينتهي إلى «دولة يهودية نقية» فهل ما زلنا نحتفي به؟ وما الفارق بين دولته ودولة نتنياهو اليهودية النقية؟ أنظر حول مختلف هذه القضايا.

كانت الحلقة الثانية بمثابة تغزُّل في دول الاشتراكية المحققة، تغزلاً متبادلاً بينه وبين الصحافي. لا داعي للبحث في السنوات السبعين الأخيرة في ما كتبه تشومسكي عن هذه الدول حينما كانت قائمة! أيّ ماذا كتب عن «الستالينية» و«الشمولية – التوتاليتارية» وعن التعددية الخ… لكن هذا الغزل هو بالتأكيد لم يكن موقفه في السابق، اقول هذا بالقياس. ومن يعنيه البحث فبوسعه القيام بذلك. فمن كان يعيش في خمسينات القرن العشرين في كيبوتزات الكيان كصهيوني متمسك بالصهيونية بطبعتها الأساسية كما يقول هو نفسه، لا شك أنه لم يكن على وُدِّ مع الشيوعية لا في الاتحاد السوفييتي ولا في الصين. ولذا لا أعتقد أنه كان داعماً حقيقياً للشكل المتواضع مؤخراً للاشتراكية في أميركا الجنوبية.

كان حديث تشومسكي بارداً تجاه السوفيات، رغم محاولة الصحافي تسخينه. لذا تحدث الصحافي أكثر من الضيف، لكنه كان أكثر ميلاً لتايوان. من الطريف انهما امتدحا ولاية كيرالا في الهند دون أن يقولا للمستمع بأنها يحكمها الشيوعيون! وعموماً، كانت الحلقة بمثابة سهرة عادية، لا أدري ما الذي أغرى مشتري الحلقات بها؟

كان مفيداً حديثهما عن تحكم الإعلام الغربي بضيوفه ليرغمهم على قول ما يريدون، وذلك بإجراء بروفات حديث معهم قبل أن يأخذهم على الهواء. ولكن، أعتقد انّ هذا ما تقوم به كافة أجهزة الإعلام في العالم.

كانت الحلقة الثالثة بمثابة توضيح لموقفه الناقد للولايات المتحدة. وهو كما أشرت أعلاه نقد سياستها الخارجية كثيراً، وربما هذا سبب شهرته العالمية، وهذا يثير سؤالاً: لماذا تصمت عنه أميركا مئة عام بينما تغتال «اف بي آي» من هم أقلّ منه نقداً؟ وتحاصر نورمان فنكلشتاين، والراحل هاوارد زن وغيرهما. هل هو في حماية اللوبي الصهيوني، التروتسكي وخاصة الذين في قيادة المحافظية الجديدة، أم كونه ليبرالياً؟ وربما الأهمّ لأنه ليس شيوعياً وليس جوهرياً ضدّ الكيان الصهيوني.

لا أدري كيف غاب عن الفضائية هذه أنّ الصحافي الذي سأل تشومسكي، وتشومسكي نفسه، ينطلقان من أنّ فلسطين المحتلة 1948 هي للكيان الصهيوني: لذا يسأله الصحافي: «هل ستعيد إسرائيل الأرض التي تحتلها إلى الفلسطينيين»؟ فيجيب تشومسكي: «لا، طالما تدعمها أميركا».

ترى هل تعتقد الفضائية أنّ فلسطين المحتلة 1948 هي أرض «إسرائيل» كما تقول مبادرة الحكام العرب التي كتبها الصحافي الصهيوني اليهودي الأميركي ثوماس فريدمان و«أوحى» بها لملك السعودية المتوفى عبد الله بن عبد العزيز؟

شئنا أم أبينا، نحن في حالة عدوان خطاب الغرب والثورة المضادة ضدّ العقل العربي بل العروبة بأجمعها. وهذا يوجب علينا تحويل هذا التناقض من عدوان خطاب وإعلام الغرب والثورة المضادة إلى حرب الخطاب بيننا وبينهم، ايّ الانتقال من المتلقي والمتقي إلى المواجهة بل إلى حالة هجومية.

لا نجد في إعلام الأعداء ايّ الثورة المضادّة حالات هدنة او تراخ او رخاوة تجاهنا، بل هجوم متواصل وبأعلى وتائر ممكنة. فلماذا يتورّط كثير من إعلامنا وخطابنا، حتى المقاوم منه، في غضّ الطرف أو الكسل أو عدم الدقة بان يقدّم برامج لصالح الثورة المضادّة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى