علي بدر الدين يؤرشف تاريخ الاغتراب اللبناني

ج. أ.

جديد الزميل علي بدر الدين كتاب «تاريخ الاغتراب اللبناني 1880 ـ 2016» يستحق أن نقف عنده لأكثر من سبب، ومنها الجهد المبذول في البحث والتنقيب، وللمعلومات الهامة الخافية عنّا نحن المنهمكين بأوجاع الوطن وحلم الهجرة والترحال، وأخيراً لسلاسة الطرح وبساطة التقديم لعالم يشكل حياة مهمة في تاريخ المواطن والوطن.

الاغتراب اللبناني هو الحلم الذي يرافق المواطن اللبناني منذ الولادة، وفي هذا الجهد الذي وضع في كتاب قد لا يضيف الجديد لكثرة ما أشبع موضع الهجرة والاغتراب تمحيضاً ودرساً وثرثرة وكتابة. ولكن طرحه اليوم بعدما تغيّر مفهوم الهجرة وسمسراتها الجديدة، وتزوير بعض حقائقها، وتركيب الطرابيش الطائفية كحال كلّ قضية تطرح في لبنان، يخرج جهد الزميل بدر الدين نظيفاً وبعيداً عن العنصرية والطائفية والحزبية. همّه تقديم وقائع وأسماء وحكايات وتفاصيل واضحة المعالم من أصحابها ومن التاريخ بعيداً عن إشكالياته التي يزوّرها البعض لغايات لم تعد تمرّ ببساطة أو سذاجة.

يبيّن الزميل علي بدر الدين أن الاغتراب اللبناني إلى البرازيل بدأ عام 1840، والاغتراب إلى أفريقيا انطلق من عام 1884، وفي منتصف القرن التاسع عشر بدأت الهجرة الأولى باتجاه أميركا الجنوبية والشمالية وأستراليا، وولدت ما يسمى «بالمتحدّرين من أصل لبناني»، الذين نسوا لبنان بفعل الذوبان وآلية المجتمع الجديد وخصوصياته.

كما يشير إلى أنّ الموجة الثانية من الهجرة والاغتراب اللبناني باتجاه القارة الأفريقية، خصوصاً بين الحربين العالميتين الأولى والثانية 1918 ـ 1943 ، وذلك بعد أن وضعت بعض دول أميركا اللاتينية قيوداً على الهجرة، وبعد توقّف الحرب العالمية الثانية تحوّلت الهجرة اللبنانية إلى انتشار كبير، ما أفرز اغتراباً شاملاً لكلّ المناطق والطوائف اللبنانية.

انطلق الاغتراب اللبناني في السابق هرباً من الوضع الاقتصادي وظلم الاستعمار. أما اليوم فهو هدف كلّ مولود بسبب الفقر الاقتصادي والتناحر الطائفي، والنظام اللبناني المخلخل ببنائه. هذا النظام قنابل موقوتة تشجّع على الهجرة والاغتراب، ولا جديد في ما نشير إليه، ولكننا سنستمر في هذا الواقع الفاجعة ما دام نظامنا يتكسّر ويتحطّم في كل لحظة أمام الفعل الطائفي و«ستة ستة مكرّر»، والتوزيع السكاني الديموغرافي المثير للريبة والخوف، والذي بشّر بالحروب المتتالية منذ عام 1860 وصولاً إلى الحرب الأهلية الهمجية 1975، وما تلاها من هجرات واغتراب مخيف.

ربما الصورة الإيجابية الوحيدة في موضوع الاغتراب اللبناني، دعم اقتصاد الفرد المقيم داخل الوطن بالمال الذي يحرّك السوق العقارية والزراعية، لكته اليوم وقع في هوة شرك السياسة العربية والصراع مع الصهيونية، ما يضيّق حجمه مع كلّ صفعة اقتصادية تصيب المواطن العربي، وتحديداً مجتمع المقاومة.

كتاب الزميل علي بدر الدين ثروة بالغة الأهمية في طرح قضية تشكّل الشريان الفاعل في تدعيم الداخل اللبناني، وفي نشر الفكر اللبناني عالمياً. والأهم الأمانة والموضوعية اللتان تعاطى بهما الزميل في سرد موضوع الهجرة والاغتراب اللبناني كقضية تستحق إلقاء الضوء عليها، وإهمال هذا الموضوع ضمن النفاق الذي اشتهرت به دولتنا في طرح مصائبنا الوطنية وحلّها، والتزلّف المشهود لنظامنا في معالجة مشاكلنا، والهرولة إلى تأجيل واقعنا المؤلم خوفاً من تحمّل مسؤولية قضايا محقة وطبيعية في بناء البلد ستعيق أيّ بارقة أمل في أن نعيش داخل وطن المؤسسات بعيداً عن فكرة الهجرة، والتي أصبحت هجرة إلى الأبد، وغربة دائمة نتجرّعها مع حليب الأمّ والمصنع، وذلك بفضل واقع سياسي فيه انتماء للفساد بعيداً عن انتماء الإنسان إلى وطن يستحقه.

ورغم ما قدّمه هذا الكتاب من حقائق تؤكد اختلاف أسباب الهجرة والاغتراب اللبناني، بقيت الطائفية من أهمّ الأسباب… للأسف.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى