عكيف الحركة … أخذ حقّه «بالضربة القاضية» والإهمال قضى على طموحاته

في سياق «فلفشتنا» لإنجازات الرياضيّين القدامى في شتّى الألعاب، ارتأينا اليوم أن ندقّ باب «الفن النبيل»، أي لعبة الملاكمة. اخترنا عكيف الحركة لكونه طرق كلّ أبواب اللعبة، فهو البطل والمدرّب والحكم والإداري، فماذا نقرأ في تفاصيل سيرته الرياضيّة؟

غير مكترث بكرة القدم وملاعبها ونجومها وفورتها في ستينيّات القرن الماضي، ارتأى عكيف داوود الحركة المولود في العام 1945 أن يغرّد خارج السرب الرياضي المألوف في أحياء الضاحية الغنيّة بالملاعب الرمليّة الصغيرة، ففي مطلع شبابه اختار لعبة الملاكمة نزولاً عند رغبة صديقه في العمل وجاره في الشارع قاسم موصلي الذي كان يتوسّم به خيراً فوق الحلبات، ولطالما كان يشجّعه على اختيارها دون سواها من الألعاب، علماً أنّه في تلك الأيام كانت كرة القدم لا تكّلف لاعبيها قرشاً واحداً، فيما كان على الراغب في الانتساب إلى أندية الألعاب القتاليّة دفع سبع ليرات على الأقل كبدل اشتراك شهري، وعلى الرغم من عدم وجود أندية قتاليّة قريبة من منزله في برج البراجنة ودفع الاشتراك من مصروفه الخاص، نجح عكيف الحركة في شقّ دربه البطولي سريعاً، متّكلاً على قبضته الفولاذيّة، ففرض نفسه قويّاً بين الأقوياء مع تخصّصه بإنهاء معظم نزالاته في البطولات، وحتى في التدريبات بالضربة القاضية. عن بداياته الأولى في لعبة «الفن النبيل»، أخبرنا الحركة الكثير من «الخبريّات»، لتبقى في قلبه غصّة لا زالت تؤلمه حتى اليوم، بسبب عدم الاهتمام الرسمي والاتحادي بإنجازاته، والتي كانت ستكون أكبر وأكثر ـ حسب قوله ـ فيما لو تمّ توظيفه في سلك الإطفاء بُعيد عودته من مصر في العام 1965 متوّجاً بالمركز الثالث في البطولة العربيّة.

يوم واحد في البسطة!

بعدما أقنعه صديقه قاسم موصلي بالانتساب إلى نادي الأهلي في البسطة، تدرّب عكيف يومه الأول تحت إشراف الملاكم صبحي حيدر، الذي تمنّى عليه منازلة الملاكم علي فواز استعراضيّاً، لكن الأخير عمد إلى توجيه ضربه قويّة فأوقعته أرضاً والدماء تسيل من أنفه، وهنا يكمل مستذكراً: «خرجت من النادي زعلاناً، وفي اليوم التالي قصدت نادي الفتوّة ـ الغبيري الذي كان يرأسه الراحل إبراهيم عواركه فانتسبت إليه وصرت أتدرّب تحت إشراف البطلين عبد الرزاق الحجاوي وجميل الكيكي، وبعد 7 أشهر من التدريب المتواصل شاركت في بطولة لبنان للعام 1965 حيث أُقيمت على حلبة نادي الصياد، وعلى الرغم من تعمّد بعض أعضاء الاتحاد على إرهاقي كي لا أحقّق مركزاً متقدّماً، خشيةً منهم أن أسحب بساط المراكز الأولى من ملاكميهم، ومع ذلك، نازلت ثلاثة أبطال من العيار المتميّز هم زهير عون وخضر الصفح ومحمد حوماني، وغلبتهم جميعهم بالضربات القاضية لأحرز بطولة لبنان في وزن 81 كلغ، علماً بأنّ الصفح كان قد تمنّى عليّ أن أستعرض معه حتى الجولة الثالثة، إلّا أنّه غدرني بضربة قوية في الجولة الثانية، عندها سارعت في الردّ عليه بضربة قويّة حملوه على إثرها إلى المستشفى، وعند إحرازي البطولة بعد فوزي على الحوماني نظرت إلى الراحل علي جرادي، خاطبته: «بعد في عندك حدا؟»

كأس وميداليّة… إنجازات وذكريات

بعد فوزه ببطولة لبنان للدرجة الثانية في العام 1965، طلب رئيس الاتحاد علي جرادي من عكيف الحركة الاستعداد ليمثّل نادي الشبيبة بناءً على رغبة رئيسه محمد القيسي أمين عام الاتحاد حينذاك في دورة دوليّة في اليونان، وعن مشاركته تلك، أخبرنا قائلاً: «لعبت في وزن 81 كلغ، ففزت في أول مباراتين قبل أن ألعب مباراتي الأخيرة على المركز الأول، وأذكر أنّه بعد فوزي بالضربة القاضية وإحرازي كأس البطولة قفزت من فوق الحلبة ورحت أركض في القاعة فرحاً، فلحقت بي عناصر الشرطة ظنّاً منهم بأنّ إشكالاً قد حصل في القاعة، لكنّني أخبرتهم بأنّني أحتفل ببطولتي.. وعلى طريقتي»، وأتذكّر يومها أنّ عبده الشامي قال لمسؤولي الاتحاد بأنّ قوّتي مستمدّة من أكلي للحوم الجمال. وفي العام نفسه 1965 شارك عكيف في البطولة العربيّة التي نُظّمت في مصر، فنجح في إحراز المركز الثالث لينال الميداليّة البرونزيّة وحده من بين الملاكمين اللبنانيّين المشاركين. ويكمل مستذكراً: «بعد بروزي بشكلٍ جيد على الحلبات في العام 1965، أرسلني الاتحاد ضمن بعثة إلى سورية لمنازلة أبطال فريق الجيش السوري في وزني، فلعبتُ مع بطل العرب أمير توكّلنا وخسرت أمامه بالنقاط نتيجة تحامل الحكم الجزائري، وفي لقاء الردّ بعد شهر مع أمير توكّلنا في لبنان على حلبة نادي الشبيبة فزت عليه بالضربة القاضية. ومن ذكرياتي أيضاً أنّ مديريّة الأمن العام فتحت أبوابها ليلاً لإصدار جواز سفر خاص بي على ضوء اختياري في اللحظة الأخيرة ضمن بعثة خارجيّة، ويومها سعى رئيس «نادي أسامة» فؤاد رستم إلى إبعاد جميع ملاكمي الأندية، مرجّحاً كفّة ملاكميه فقط، وهذه الأمور المحسوبيّات لم تزل تفعل فعلها السيّئ في رياضتنا اللبنانيّة فتعيق تطوّرها على جميع المستويات».

وخلال مشاركته في دورة وديّة في الأردن، أحرز عكيف بطولة وزن 81 كلغ، وظلّ محتفظاً ببطولة لبنان في هذا الوزن لخمس سنوات 1965 ـ 1970 ، وبطولة وزن الـ91 كلغ لثلاث مواسم 1971 ـ 1973 ، وفي العام 1974 ترك حلبات الملاكمة متوجّهاً إلى ميداني التحكيم والتدريب، فحكّم في دورات عربيّة عدّة خلال الثمانينيّات والتسعينيّات، ولاحقاً منحه الاتحاد الدولي شارة «حكم قاري» في العام 1998، وكان قد استهلّ مسيرته في العمل الإداري مع الرئيس الراحل علي جرادي كعضو في لجنة المدرّبين، ومن ثمّ واصل مسيرته الاتحاديّة إلى جانب الرئيس الحالي للاتحاد المهندس محمود الحطّاب على مدى ولايتين 2002 ـ 2010 ، ومنذ خرج من أجواء اللعبة على ضوء مناكفات مستمرّة مع بعض ضعاف النفوس ـ بحسب كلامه ـ ارتأى الابتعاد عن العمل الرياضي مع دعمه لتشكيل نقابة الملاكمين المحترفين، ولم يزل يردّد «أنا في خدمة اللعبة التي أحب، ومن يسعى إلى إعادة الروح للملاكمة فأنا في خدمته وجاهز للمساعدة».

تشجيع العائلة ودعم الأصحاب

عندما سألت البطل عكيف الحركة عن تفاعل العائلة مع اندفاعته إلى حلبات الملاكمة في شبابه، قال: «كان والدي من عشّاق لعبة المصارعة ومتتبّعي أخبارها، وغالباً ما كان يحضر الحفلات التي كانت تُقام على حلبة المدينة الرياضيّة، ولكن بعد بروزي في الملاكمة وإحرازي للبطولات المحليّة، مال إلى اللعبة وصار يواكبني ويشجعني، فيما كانت والدتي تواكبني ولا تُشعرني بتواجدها في المدرجات. وأذكر ذات يوم حضر إلى منزلنا لتهنئتي ببرونزيّة البطولة العربية أكثر من 200 شخص من الأقارب والجيران»، ومن الرجالات التي دعمته يتذكّر: «أبو طالب ناصر الذي عمل على توظيفي في بلديّة برج البراجنة وشقيقه أبو خالد، الأستاذ خضر الحركة ويوسف حاطوم وغيرهم».

عندما ودّعته في منزله الكائن في برج البراجنة، استوقفني قائلاً: «نصيحتي الوحيدة لمن يهمّه إنهاض الواقع الرياضي في لبنان، أن يضعوا الرجل المناسب في الموقع المناسب بعيداً عن المحسوبيّات والابتعاد عن سياسة الترقيع المتّبعة حالياً، وضرورة إعطاء كل ذي حقّ حقّه»، فقلت له: «يبدو أنك مقهور من حدا»، فردّ: «ما يحزّ في قلبي وجود جيش من المنتفعين ممّن يعملون لشخصهم على حساب الأجيال وسمعة الوطن الرياضيّة».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى