ماذا يعني الإجماع على غوتيريس أميناً عاماً للأمم المتحدة؟

ناصر قنديل

– تأتي نهاية ولاية الأمين العام الحالي للأمم المتحدة متزامنة مع جملة تطورات تجعل من مناسبة اختيار بديل عنه حدثاً عالمياً سياسياً من الطراز الأول، حيث شهدت السياسة الخارجية لكلّ من الدولتين العظميين أميركا وروسيا تغييرات جوهرية، كما يشهد العالم نزاعات مفصلية، وفي كلّ من المجالين يصير للتوافق الأميركي الروسي على اسم معيّن، وصولاً لنيله الإجماع في تسميته من مجلس الأمن معانٍ وأبعاد تتخطى مجرد تيسير العمل وتسهيل ملء شغور منصب.

– خلال ولاية الأمين العام الحالي بان كي مون ترجّلت واشنطن عن حصان وزير دفاعها في عهد حروب جورج بوش والمحافظين الجدد دونالد رامسفيلد الذي أطلق نظرية نهاية الحاجة للمنظمة الأممية، فقد شعرت إدارة بوش نفسها وبعدها إدارة الرئيس باراك أوباما بالحاجة لتفعيل دور الأمم المتحدة، سواء بتغطية وشرعنة احتلالها للعراق وأفغانستان، أو تالياً بمنح التغطية للحرب على ليبيا، التي يعترف أركان إدارة أوباما أنها كانت شرطاً لتسويق التدخل هناك لدى الرأي العام الأميركي، وأنه بسبب عدم الحصول على تغطية مماثلة لدور عسكري في سورية بسبب الفيتو الروسي والصيني المكرّر، تراجعت واشنطن دائماً عن قرار التدخل العسكري، رغم قناعتها بأنه لا فرص لتقدّم مشروعها بدونه، ومقابل التراجع الأميركي عن قدرة التفرّد وتخطي الحاجة للأمم المتحدة، يشهد العالم صعوداً متنامياً للدور الروسي السياسي والعسكري، والذي يضع الأمم المتحدة إطاراً جامعاً للسياسات الخارجية، وخصوصاً كمظلة موحدة للحرب على الإرهاب منعاً للاستنساب الأميركي في استخدام هذه الذريعة لفرض مصالح وحسابات خاصة. وتضع موسكو ثقلها لجعل الأمم المتحدة منبراً للتفاوض، ومؤسسة لصناعة التسويات وتطبيقها في مناطق النزاع، وصار واضحاً أنّ احتواء الحركة الروسية الحيوية والرشيقة والمتسارعة والقوية المفاعيل مستحيل بدون دور أشدّ حضوراً للأمم المتحدة ترتضيه موسكو.

– يمثل أنطونيو غوتيريس البرتغالي الاشتراكي الذي ترأس حكومة بلاده عشر سنوات، شخصية أوروبية قريبة من واشنطن، وهو شخص هادئ مثقف ومحنك سياسياً، وحاضر ومبادر، ومهتمّ بالشؤون الإنسانية ونشر ثقافة السلام والتفاوض، وداعية لتفاهم أميركي روسي يظلّل حركة الأمم المتحدة لتسريع فضّ النزاعات بالتفاوض، خارج معايير وقوالب ونظريات، تعطي الأولوية للأهداف الخاصة بالأطراف، بل للسلم والتنافس السلمي أولاً، وحماية المدنيين في النزاعات، ورغم تفضيل موسكو للبلغارية إيرينا بوكوفا مديرة اليونيسكو التي أسقط ترشيحها فيتو أميركي، بسبب رفعها علم فلسطين فوق اليونيسكو، واعترافها بالدولة الفلسطينية، قبلت موسكو عدم استخدام الفيتو ضدّ غوتيريس بعد سحب بلغاريا لترشيح بوكوفا، التي يرجح أنها ستحتلّ ضمن تفاهم روسي مع غوتيريس منصب نائب الأمين العام، كما يرجّح أن يتولى دبلوماسي روسي منصب المعاون السياسي بدلاً من الدبلوماسي الأميركي جيفري فيلتمان، يرجّح ان يكون المبعوث الروسي في الأمم المتحدة فيتالي تشوركين. وهكذا جاء التوافق الروسي الأميركي على شخص غوتيريس ليعيد إلى الذاكرة توافقاً مشابهاً على وصول الأمين العام الأسبق النمساوي كورت فالدهايم، الذي اتسمت المنظمة الدولية في عهده بالحيوية والنشاط.

– يستطيع المراقب أن يتساءل لو كانت المواجهة الروسية الأميركية محتدمة على ما توحي الأجواء الإعلامية وتذهب للمواجهة، أليست منصة تسمية الأمين العام الجديد مناسبة للرسائل المتبادلة على هذا الصعيد، والوقت يتسع لحسم الاسم المرشح حتى نهاية العام، وكان ممكناً تقاذف اللعبة حتى اليوم الأخير، والتفاهم ربما على شخصية هامشية تمثل موظفاً كبيراً برتبة أمين عام يتولى دفع الرواتب وتسيير البريد الروتيني للمنظمة الأممية، التي ستكون على هامش الأحداث المرتقبة بمواجهات بين أكبر دولتين في العالم، حيث لا قدرة للأمم المتحدة على التدخل في سائر النزاعات بدون توافقهما؟

– ينطلق غوتيريس من توافق روسي أميركي على اسمه، كتفويض له بتطبيق نظريته القائمة على الدعوة، لهذا التوافق، للسير بملفات التفاوض حول النزاعات وأخذها إلى تفاهمات لا تحمل عنوان تفاهم روسي أميركي بعدما تبيّن لواشنطن عجزها عن دفع فواتير تطبيق هذه التفاهمات مع حلفائها، وبدا أنّ دعم واشنطن من خلف الستار لأمين عام فاعل ونشيط ومؤهل، يعطي صورة غير الصورة البلهاء التي قدّمها بان كي مون، يجعل فرص الصياغات للمعادلات الجديدة أقلّ كلفة، وواشنطن التي خاضت التمرّد على الأمم المتحدة تعتبرها فرصة لتقييد الصعود الروسي بدور فاعل للأمم المتحدة، ترتضيه موسكو وتقول إنه هدفها، فتتراجع واشنطن لتنضوي تحت المظلة تدعيماً لمطالبة موسكو بفعل المثل، تماماً كما كانت تفعل موسكو.

– الحرب في سورية اليمن والقضية الفلسطينية، وقضايا اللجوء والنزوح، محاور المهام التي يفترض أن تشكل أولويات مهام غوتيريس. وهو ملمّ بها جيداً ويملك تصورات تفاوضية لمقاربتها، تحتاج تفاهماً على إطار بين موسكو وواشنطن يترك له فرصة القيام بما يلزم بمرونة كافية، لإطلاق صفارة مفاوضات متعددة المنصات لأزمات يعرفها ويعايشها الأمين العام الجديد ويعرف الخطوط الحمراء للتوازن الدولي الذي ترسمه العلاقات الأميركية الروسية، التي وفّرت له فرصة الوصول للمنصب الأممي الأول واختبار فرص السلام القائم على التوازن السلبي الناتج عن صعود موسكو وتراجع واشنطن، وأول الاختبارات سيكون قراره بزيارة دمشق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى